"النكبة الثانية" وصناعة المتطرّفين الجدد


جراسا -

الكارثة الإنسانية والمجازر البشعة التي يتعرّض لها "قطاع غزة"، منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، تمثّل نقطة فاصلة في المشهد السياسي والديني، لما تحمله بين جنباتها من ضغوط نفسية وإنسانية شديدة التعقيد أمام الأجيال الشابة، جراء ممارسات الدولة العبرية من دون مراعاة للمدنيين والأطفال والنساء، في إطار تجريف الشعب الفلسطيني، وتصفية قضيته نهائياً.

المقاومة المسلّحة حق مشروع في سبيل تحرير البقاع الفلسطينية، ولا يمكن لأحد أن يختلف عليه، ولا يمكن كذلك أن يتوقف الصراع عند حدود المفاوضات السياسية، أمام جرائم المحتل الإسرائيلي، ومشاريعه المستمرة في عمليات التهجير والتصفية المتعمدة.

تغمر الشارع العربي حالة من العجز والخذلان مشحونة بمشاعر وانفعالات شديدة القسوة، إزاء تدمير الجيش الإسرائيلي الهياكل والمنشآت الطبية عمداً، والتي لم تفرغها المساعي الدبلوماسية على المستوى الشعبي، لكن ثمة فوارق بين القرارات المبنية على انفعالات لحظية، وبين القرارات السياسية القائمة على مراعاة الصالح العام، وتحجيم توسيع الصراع، والنأي بالمنطقة عن الدخول في حرب إقليمية.

حجم المشاهد والمآسي التي تعرّض لها الأطفال والمراهقون، جديرة بتعايشهم في دائرة العدوانية، وسهولة وقوعهم فريسة لأبجديات الخطاب الديني لجماعات التطرّف العنيف التي طالما تاجرت بالقضية الفلسطينية، وتتذرع بالغطاء الشرعي الذي منحته بشكل مباشر أو غير مباشر، الأزمة الراهنة، فضلاً عن قدرتها على صناعة أجيال من المتطرّفين الجدد، الذين يتخذون من الإنحراف الفكري والسلوكي عقيدة ومنهاجاً.

يُعتبر الالتحاف بالقضية الفلسطينية، مدخلاً قوياً في تمرير عمليات الإستقطاب الفكري والتجنيد التنظيمي بين جموع الأجيال الشبابية من قِبل التنظيمات الأصولية، في إطار زعمها تبنّي الدفاع عن المقدسات الإسلامية، بدءاً من جماعة "الإخوان المسلمين"، مروراً بجماعة "التوحيد والجهاد"، و"أكناف بيت المقدس"، و"المرابطون"، و"أنصار بيت المقدس"، و"أنصار الشريعة"، وتنظيم "القاعدة"، وتنظيم "داعش"، وغيرهم.

في ظلّ صعوبة فصل تنامي نشاط التنظيمات الإسلاموية عن مسرح الأحداث الإقليمية والعالمية، ستمثل "النكبة" الثانية، في مجملها إنطلاقة لصناعة جيل من المتطرّفين الجدد، لكنها لن تعمل على زيادة التمدّد السياسي لجماعات "الإخوان المسلمين" أو لتيارات "الإسلام السياسي" في عمق المنطقة العربية، كما أنّها لن تعمل على إحياء تنظيم "القاعدة"، أو منح صك العودة لتنظيم "داعش".

موجات العنف المقبلة أو المرتقبة، تضمّ في نسختها أجيالاً تمتلك مرجعيات مختلفة في التعامل مع أهدافها على المستويين السياسي والفكري، معتمدة على وسائل التكنولوجيا الحديثة، في تنفيذ مهامها القائمة على فنون "حروب العصابات"، وتتسق كذلك "إيديولوجياً" مع الإرث المتراكم الذي وضعه كهنة التكفير والعنف الأوائل، من حتمية الجهاد المسلح، والأممية الأصولية، ومظلة الخلافة، والعمل التنظيمي والسرّي، إلى الإنطلاق نحو ما يُعرف بصناعة جيل "النصر المنشود"، الذي تمّت صياغة مفرداته في أدبيات الجماعات الإسلاموية.

سيتبنّى المتطرّفون الجدد في تحركاتهم وعملهم المسلح استراتيجية "الضربات الفدائية"، أو "الخاطفة"، في تماهٍ مع منهجية "الذئاب المنفردة"، أو"خلايا التماسيح"، بعيداً من الإطار التنظيمي التقليدي، سعياً إلى تحقيق أكبر قدر من الخسائر، بأقل قدر ممكن من التكاليف، أو ما يُعرف بـ"الجهاد منخفض التكاليف".

المبرّرات الشرعية الجاهزة في التمرير بين أطراف خلايا "موجات العنف" المرتقبة، مبنية على شيطنة الأنظمة العربية الحاكمة، وتكفير قادتها واتهامها بالعمالة لصالح الغرب، وتنفيذ الأجندة الصهيونية في الخفاء، واكتفائها برفع شعارات الإستنكار والشجب والإدانة، ومن ثم تعتبر "الخروج عليهم واجباً شرعياً"، كقاعدة فقهية بلورتها الأطر الفكرية للجماعات الأصولية، والتي تعتمد عليها في تحقيق مشروع "العدو القريب"، واستهداف المؤسسات المدنية والأمنية والعسكرية في عمق المنطقة العربية.

لن تتوقف "موجات العنف" المرتقبة، على حيز المنطقة العربية، لكن من المؤكّد أن ينال الغرب الأوروبي ومصالحه قدراً منها، في إطار ما يُعرف بمواجهة "العدو البعيد"، رداً على دعمه غير المتناهي للدولة الصهيونية، سواء مالياً أو عسكرياً أو إعلامياً أو حتى صمتاً، في ظلّ التمدّد الفكري الأصولي في العديد من الدول الأوروبية التي تركت الساحة أمام تنامي التيارات المتشدّدة في مقاطعاتها ومدنها.

في الغالب الأعم ستؤدي "التيارات السلفية" دوراً فاعلاً في "صناعة المتطرّفين" الجدد، لما تقوم به من دور تمهيدي على المستوى الفكري، يمثل حلقة وسيطة في الانتقال إلى حيز العمل الجهادي المسلّح، والارتماء في غياهب العمل السرّي غير التنظيمي، في ظلّ انتشار منابرها ومؤسساتها على مواقع التواصل الاجتماعي.

في أيار (مايو) 2001، كانت القاهرة على موعد مع أخطر تنظيمات "السلفية الحركية" في أكبر قضية ضبطتها أجهزة الأمن المصري، المعروفة إعلامياً بـ"تنظيم الوعد"، التي ضمّت 94‏ متهماً‏ بينهم 13 أجنبياً،‏ ونُظِرتْ أمام القضاء العسكري، بتهمة محاولة اختراق الحدود لتنفيذ عمليات مسلّحة في الداخل الفلسطيني، وجمع الأموال، وتجنيد الشباب وتدريبهم على السلاح، والتخطيط لاغتيال شخصيات سياسية، وتنفيذ هجمات ضدّ مبانٍ رسمية بينها مبنى الإذاعة والتلفزيون.

ضمّت القضية عدداً من رموز التيار السلفي، وثلاثة طيارين واثنين من الغواصين، وخبراء مفرقعات ومتفجرات، وعناصر تدرّبت على العمل المسلّح في أفغانستان والشيشان، وقد أُسدل الستار على قضية "تنظيم الوعد"، في أيلول (سبتمبر) 2002، حيث حفلت بأحكام متفاوتة بين الأشغال الشاقة 15 عاماً، وحبس 51 متهماً لمدة ثلاث سنوات، كما تمّت تبرئة 43 آخرين.

وفي مطلع عام 2009 ألقت الأجهزة الأمنية، القبض على 28 شخصاً بتهمة التخطيط للقيام بهجمات إرهابية وأعمال تخريبية داخل الأراضي المصرية، وتنفيذ عمليات "انتحارية"، ضدّ السياح الإسرائيليين، من خلال جمع المعلومات عن القرى والمدن والطرق الرئيسية في محافظتي شمال وجنوب سيناء، ورصد وتحديد الأفواج السياحية المتردّدة على مناطق جنوب سيناء، واستئجار بعض العقارات المطلّة على المجرى الملاحي لقناة السويس لاستغلالها في رصد السفن العابرة بالقناة، في ما عُرف إعلامياً حينها بـ"خلية حزب الله".

واقعياً وعملياً، تيارات الإسلام السياسي والجماعات الإسلاموية تاجرت بالقضية الفلسطينية، وحققت من ورائها مكاسب مادية وسياسية وتنظيمية، ومنحتها فرصة التواجد في عمق المنطقة العربية، وما زالت تتلاعب بها، مستغلةً الأحداث الراهنة، في محاولة تقديم نفسها مرّة أخرى بعد سقوطها على مدار السنوات الماضية.

الحقيقة التي لا يمكن الهروب منها في النهاية، أنّ مذابح إسرائيل برعاية الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية ضدّ الشعب الفلسطيني، كفيلة بإنتاج المئات من "المتطرّفين الجدد"، الذين سيعملون على استهداف الاستثمارات والمصالح الغربية في الداخل العربي، ومن ثم المزيد من فرص التدخّل الأجنبي في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، تحت مزاعم مكافحة الإرهاب، وتجفيف منابعه، وحماية الدولة العبرية من مخاطر تمدده.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات