المسؤولية والمسائلة في ظل الحُكم الشمولي


بداية، أود أن أذكر بأن هذه المقالة هي مساهمة في إثراء النقاش للورقة الأولى التي تقدم بها جلالة الملك عبد الله الثاني إبن الحسين طارحا فيها رويته للإصلاح، وادعي بأن هذه المساهمة غير تقليدية وستجلب لنا السخط الإضافي من الحرس القديم الذي لم ولن يتسع صدره لمخاطبة ملك البلاد بما يدخل في باب المحرمات لديهم، ولكني أجد لإزاما علي أن أتفاعل مع دعوة جلالته في إبداء الرأي حول رؤيته للإصلاح وسأركز على الإصلاح التنموي بصفي ممارس ومراقب فطن لما يجري على الساحة الأردنية من الناحية التخطيطية.
تاتي هذه الورقة بعد إنقضاء عدة سنوات على إتباع نهج تم فيه خصخصة غالبية المؤسسات الوطنية في ظل قيادة جديدة للبلد يختلف تصورها للتنمية عن النهج التخطيطي الذي كان متبعاً إبان حكم الملك الراحل الحسين إبن طلال. والإختلاف في الفكر التخطيطي هو حق للمسؤول يمارسه بموجب الصلاحيات الموكله إليه ومن حقنا نحن معشر المخططين أن نقف لبرهة لتقييم هذا النهج لأنه يمس حياة المواطن اليومية وسنُلام إن قصرّنا في واجبنا بالإدلاء بالرأي على الرغم من عدم تمكيننا من الإطلاع على الأرقام والمعلومات لأنها وببساطة محجوبة عنا. والسبب في ذلك يعود إلى تركيبة النظام الأردني الذي يعتمد على الحس الأمني المفرط عند إنتقاء موظفي الدرجات العليا فإن لم يحظى المرشح للوظيفة العامة بتزكية من دائرة المخابرات العامة فلن يصل إلى موقع المسؤولية في الأردن، وهذا لا يعني تذمر أو حسد وإنما يضع اليد على موطن الخلل في التنمية في الأردن فكيف ستدار عجلة التنمية إذا ما كان الوزراء والأمناء والمدراء العامين من نفس العلبة، وأين ذلك من الأسس الديمقراطية المتبعة في العالم، وأعني بذلك مفهوم الأغلبية الحاكمة والأقلية المعارضة. صحيح أن من حق الإتلاف الحاكم أن يحافظ على موقعه، ولكن ليس من حقه إن يحول باقي أفراد ومؤسسات المجتمع إلى أتباع بالإكراه أو التحييد، وما قانون الإنتخاب الحالي إلا خير دليل على ما أقول لأن معالم المجلس النيابي السابع عشر بدأت تتشكل والذي سيرسخ المبدأ المذكور في نفي أو تحييد المعارضة الوطنية. أني أوكد في هذا المقام على أن النظر إلى المجلس التشريعي والذي سينبثق عنه حكومة برلمانية من المنظور الإقصائي سيجعل من المستحيل التقدم بالإصلاح لأن الإصلاح يتطلب موالاة ومعارضة، فإذا أصبحت السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بيد الموالاة مدعومة من جهاز المخابرات التي تصل أذرعه إلى كافة المستويات الإدارية، فنحن أمام هيكل تولتاري Totalitarian Rule شمولي يعبر عن وجهة نظر واحدة يعمل بجد على تفتيت المعارضة وسحقها. ماذا لو ثبت بالتطبيق العملي بأن الممارسات التخطيطية للموالاة يشوبها الخطأ فهل هناك من آليات لتصويب الخطأ ... والجواب هو لا مكررة مئات المرات لأن إتلاف الموالاة سيدافع عن سياساته لحماية فاسد أو لتعظيم مكاسب.
إن مفهوم النظام هو ذلك التنسيق الذي يضمن التوازن بين المتناقضات، بين الخير والشر، الصدق والكذب، البناء والهدم وإلى ما ذلك، فهل تسمح الموالاة بذلك في ظل إبعاد المعارضة عن المسؤولية. ويجادل البعض بأن غالبية الأنظمة الديمقراطية في العالم تمكّن فريقاً من الإستئثار بالحكم وتبقى المعارضة في الظل لحين تمكنها من الوصول إلى السلطة عبر صناديق الإقتراع وهو ما يسمى في الولايات المتحدة الأمريكية بالادارة Administration حيث يتغير الطاقم الحاكم في البيت الأبيض من الرئيس حتى الطاهي، فكيف تتهمونا بالإستئثار بإدارة البلاد ولدينا أحزاب مرخصة وباب المشاركة مفتوح على مصراعيه للوصول الى المجلس التشريعي وبالتالي لتشكيل أو المشاركة بالحكومة البرلمانية. جوابنا على ذلك هو بسيط وهو أن الحكم في الأردن خص جلالة الملك بسلطات واسعة يرأس فيها السلطات الثلاث، فهو في نهاية المطاف شخص يصيب ويخطأ فأين هي الأليات الدستورية التي تمكن المعارضة من المسائلة ما دامت المادة الثلاثين من الدستور تنص على أن الملك هو رأس الدولة وهو مصون من كل تبعة ومسؤولية. وادعوا القاريء الى التريث في قراءة هذه المحاكاة الدستورية وعدم النظر إليها من منظور الدعوة إلى سحب صلاحيات الملك ولكنها مخاطبة للعقل في الحكم على المقدرة على الحفاظ على التوازن Balance بين المسؤولية والمسائلة. كيف لنا أن نقيّم فترة حكم جلالة الملك عبد الله الثاني في ظل غياب التوازن بين المقارنة بين الخطأ والصواب، فالملك نفسة أشار في عدة مناسبات بأن هناك أخطاء ارتكبت في المسيرة التنموية، والملك نفسه يطرح على العموم رؤيته للإصلاح على شكل أوراق نقاشية، فما المانع إذن من قراءة هذه الورقة كرد على ورقة جلالته المطروحة للنقاش. إن الحديث عن رؤية جلالة الملك للإصلاح في ظل التركيبة الحالية للدولة الأردنية سيكون منقوصاً بسبب إختلال التوازن بين المسؤولية والمسائلة، فكيف لنا أن نضع رؤية جلالته موضع التقييم، في ظل القبول بها كمُسلمات، فهي رؤية يجري تطبيقها من قبل الحكومات والديوان الملكي والمخابرات والقوات المسلحة والأمن العام وحتى من قبل الشركات العامة والخاصة كمرجعية نظرية (إستراتيجية) مصونة من كل مسؤولية. ألم يكن هناك إخفاقات كبدت المملكة ديوناً غير مسبوقة وأفقدت الدولة المؤسسات المولدة للدخل وبيعت الأراضي والأصول بسبب إنتهاج سياسة تخطيطية حان وقت تقيمها، فكيف لنا أن نقيم تجربة منطقة العقبة الإقتصادية الخاصة على سبيل المثال وهي رؤية ملكية على الرغم من عدم ثبوت جدواها إن لم نقل أن بوادر الفشل أصبحت ماثلة للعيان. أما لا يزال القائمين على هذه التجربة الأقرب إلى جلالة الملك والذين فشلوا في تطبيق المبدأ الأساسي للمناطق التنموية وهو وجود مُطور من القطاع الخاص وعدم تحميل الدولة عبء البنية التحتية في ظل غياب الموارد المالية التي كانت تدرها مؤسسات الدولة أو حصتها فيها قبل الخصخصة. كيف لنا أن نقبل بتشتت الوحدات التنموية بين البلديات وهيئات المناطق التنموية المدللة بينما تغرق البلديات بالمديونية والخراب. أليس من حقنا أن نسأل: من المسؤول عن هذا كله ليلقى الإشادة منا عن نجاح أو المسائلة عن فشل. ألا يحق لنا نحن المخططين أن نعرف من هي الجهة المسؤولة عن التخطيط في الأردن، أهو الديوان الملكي أم وزراة التخطيط أو المجلس الإقتصادي والإجتماعي أم هيئة المناطق التنموية. ألا يكفي قراءة هذه الأسماء في جملة واحدة للتقين بأن هناك تضارب صارخ في الصلاحيات. ألا يشكل إستبعاد تمثيل المنتدى الأردني للتخطيط من جميع هذه الهيئات إشارة واضحة على عدم القبول بالرأي التخطيطي الآخر.
في المحصلة، أرجو أن يتقبل القاريء هذه الملاحظات التي أوجزها بضرورة إجراء تعديلات دستورية تضمن الفصل بين السلطات الثلاث لكي يصبح جلالة الملك مرجعاً وحكما للجميع وليس طرفاً في ممارسات تنفيذية، ولهذا فأني كمواطن أردني قرأ الورقة الأولى لجلالة الملك عبد الله الثاني أدلي بدلوي هذا آملاً أن تُولد الآليات للخروج من معظلة المسؤولية والمسائلة في ظل نظام برلماني ملكي أردني طال إنتظاره.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات