الخريف


 يغادر الصيف متباطئا معتذرا من شدّة حرارته ، صاحبه شحٌّ في المياه ، وهي ملاذ الفقراء والطبقة الوسطى - وهم يشكّلون الغالبية - لإطفاء لهيبه . هذه الحرارة لا يشفع لها الاّ أنها سببا في التئام الأسر في سهرات ليلية على أسطح البيوت أو في أي مكان تظلّهم فيها السماء . وإسهامها في إنضاج قطوف العنب وحبات التين وباقي فواكه الصيف التي أصبحت للتصوير وليس للاستعمال . كما وترحل معه مشاكله وأفراحه .

يودعنا الصيف لنستقبل الخريف - والمرء بين مستقبل ومودّع - . وللخريف في حياتنا قصص وذكريات . ففيه يبدأ الأولاد رحلتهم إلى المدارس ، وتبدأ رائحة الكتب والدفاتر وصرير الأقلام تملأ أرجاء البيوت . ففي كل بيت طالب أو أكثر . وتختفي من البيوت فوضاهم ومشاكساتهم وأصواتهم المحببة ، والتي لولاها استحالت البيوت باردة مملّة حتى في أشد الأوقات حرّا . وتنساب حركة الشوارع ، ويلف الهدوء أرجاء الحواري والحارات والشوارع الفرعية . والحمد لله أنه هدوء مؤقت.

وفي الخريف تعلن بعض الأشجار حدادها وحزنها ، فتتخلى عن أوراقها لوعة وأسى ، على موجود فُقِد ، أو على مفقود لم يأتِ . فالشعور بالعُري إحساسٌ فظيع ، لا يحتمله أيّنا ولو للحظة ، فسرعان ما يبحث عمّا يواري به نفسه . وقد استغرَبت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها حين سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول " يُحشر الناس يوم القيامة ، حُفاةً ، عُراةً ، غُرُلا " قالت مستغربةُ ، يا رسول الله : الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : يا عائشة الأمر أهولُ من أن يفعلوا ذلك .

فما بال البعض لا يخجلون من عريهم الأخلاقي ، مع شدة حرصهم على الظهور بكامل أناقتهم ولياقتهم على الناس وفي المجتمعات وأمام وسائل الأعلام . والحمد لله أنه لا توجد حتى الآن كاميرات تصوّر هذا النوع من العُري . وإلاّ لتغيّرت نظرة العامّة لبعضٍ من أهل المظاهر والمناظر ، والمناصب والمصائب .

إنّ اهتمامنا بالخريف قليل ، ونظرتنا إليه محايدة . فبعضنا ينظر إليه كامتدادٍ للصيف ، وآخر يعتبره مقدمةً للشتاء واستعدادا له . فنحن عادة - للأسف - لا نحب الوسط من الأشياء ولا نهتم بها ، رغم أن خير الأمور أوسطها . فالاهتمام عادة ينصبُّ لمن هم في الأعلى وفي الأسفل ، كثنائيّة فوق وتحت . لذلك نحتفظ بملابس للصيف وأُخرى للشتاء ، ونادرا ما نجد ما يسمى ملابس الخريف . فمنْ في الوسط عادةً حقّه مهضوم وحظّه معدوم . فهو كأهل الأعراف ( منطقة بين الجنة وجهنّم ) لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء . فلا هو حارٌّ فيُخشى ولا هو باردٌ فيُتّقى .

ويبدو أن ربيع العرب وثوراتهم تبعها خريف اللا وضوح واللا لون . وكأنه لا يجوز لنا الفرح ولا أن نشعر أننا شعوب تستحق الحياة . فالخيار إمّا الخضوع وامّا الفوضى . إمّا حاكم يسلب حريتك وآدميّك ويكون وكيلا عامّا عنك ، أو يقتلك . دخلنا في الخريف وخرجنا من الربيع ... والحديث ذو شجون .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات