صناعة الرجال


يقول تعالى في محكم التنزيل:(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا). ويقول تعالى في موضع اخر:(رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ). في دار من دور المدينة المباركة جلس عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إلى جماعة من أصحابه فقال لهم:تمنوا؛فقال أحدهم:أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهبًا أنفقه في سبيل الله. ثم قال عمر:تمنوا،فقال رجل آخر:أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤًا وزبرجدًا وجوهرًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق به.ثم قال:تمنوا،فقالوا:ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟تمنى انت فقال عمر:أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح،ومعاذِ بنِ جبلٍ،وسالمٍ مولى أبي حذيفة،فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله. هذه كانت أمنية عمر رضي الله عنه وارضاه.فرحم الله عمر الملهم،لقد كان خبيرًا بما تقوم به الحضارات الحقة،وتنهض به الرسالات الكبيرة، وتحيا به الأمم الهامدة هم الرجال الذين يحققوا ذلك.لان الأمم والرسالات تحتاج إلى المعادن المذخورة،والثروات المنشورة،ولكنها تحتاج قبل ذلك إلى الرؤوس المفكرة التي تستغلها،والقلوب الكبيرة التي ترعاها، والعزائم القوية التي تنفذها؛إنها تحتاج إلى الرجال.
فوالله لرجل أعزّ من كل معدن نفيس،وأغلى من كل جوهر ثمين،ولذلك كان وجودُه عزيزًا في دنيا الناس.حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري:إنما الناس كإبل مائة،لا تكاد تجد فيها راحلة.فالرجل الكفء الصالح هو عماد الرسالات،وروح النهضات ،ومحور الإصلاح ومحاربة الفساد. فأعدَّ ما شئت من معامل السلاح والذخيرة،فلن تقتل الأسلحةُ إلا بالرجل المحارب،وضع ما شئت من مناهج للتعليم والتربية،فلن يقوم المنهج إلا بالرجل الذي يقوم بتدريسه، وأنشئ ما شئت من لجان فلن تنجز مشروعًا إذا حُرمتَ الرجل الغيور!!ذلك هو ما يقوله الواقع الذي لا ريب فيه.فإن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي،والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح المعلم، وإنجاز المشروعات ليس في تكوين اللجان بقدر ما هو في حماسة القائمين عليها. فلله ما أحكم عمر حين لم يتمنَّ فضة ولا ذهبًا،ولا لؤلؤًا ولا جوهرًا،ولكنه تمنى رجالاً من الطراز الممتاز الذين تتفتح على أيديهم كنوز الأرض،وأبواب السماء. فإن رجلاً واحدًا قد يساوي مائة،ورجلاً قد يوازي ألفًا ورجلاً قد يزن شعبًا بأسره،وقد قيل:رجل ذو همة يحيي أمة.فيعد بألف من رجال زمانه. فلذلك لما حاصر خالد بن الوليد رضي الله عنه الحيرة،طلب من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وارضاه مددًا ،فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي،وقال:لا يهزم جيش فيه القعقاع،وكان يقول:لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل.ولما طلب عمرو بن العاص رضي الله عنه المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فتح مصر كتب إليه:أما بعد:فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف:رجل منهم مقام الألف :الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو،وعبادة بن الصامت،ومسلمة بن مخلد فهؤلاء هم الرجال الرجال.
ولكن ما الرجل الذي نريده نحنا في زماننا هذا ؟ هل هو كل من خط شاربه،ونبتت لحيته من بني الإنسان؟!فعلى هذا الوصف إذن فما أكثر الرجال !لكن لنعلم جميعا إن الرجولة ليست بالسن المتقدمة،فكم من شيخ في سن السبعين وقلبه في سن السابعة،يفرح بالتافه،ويبكي على الحقير، ويتطلع إلى ما ليس له،ويقبض على ما في يده قبض الشحيح حتى لا يشركه غيره، فهو طفل صغير،ولكنه ذو لحية وشارب.وكم من غلام في مقتبل العمر ،ولكنك ترى الرجولة المبكرة في قوله وعمله وتفكيره وخلقه لأنه تربى تربية صحيحة وعلم ما معنى الرجولة الحقيقية.ولذلك لما مر عمر رضي الله عنه على ثلة من الصبيان يلعبون فهرولوا هاربين من سيدنا عمر،وبقي صبي منفرد في مكانه لم يهرب هو عبد الله بن الزبير. فسأله عمر:لِمَ لَمْ تعدُ مع أصحابك أي تهرب؟فقال:يا أمير المؤمنين:لم أقترف ذنبًا فأخافك،ولم تكن الطريق ضيقةً فأوسعها لك!.فتبسم عمر رضي الله عنه وارضاه واعُجب بجراءة هذا الغلام القائمة على الحق والرجولة. أولئك كانوا في زمانهم هم الصغار الكبار،وفي دنيانا وزماننا نحن ما أكثر الكبار الصغار؟.فليست الرجولة ببسطة الجسم،وطولِ القامة،وقوةِ البنية والعضلات فقد قال الله عن طائفة من المنافقين:(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ).ومع هذا فهم:(كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ).من الجبن والخوف لانهم ليسوا رجالا بل اشباه الرجال. وفي الحديث الصحيح:يأتي الرجل العظيم يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة،أقرؤوا إن شئتم قوله تعالى:(فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً).فعبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحيفًا نحيلاً، فانكشفت ساقاه يوماً وهما دقيقتان هزيلتان فضحك بعض الصحابة:فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:أتضحكون من دقة ساقيه؟! والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد.
فليست الرجولة بالسن ولا بالجسم ولا بالمال ولا بالجاه،وإنما الرجولة قوة نفسية تحمل صاحبها على معالي الأمور، وتبعده عن سفسافها،قوةٌ تجعله كبيرًا في صغره،غنيًا في فقره،قويًا في ضعفه،قوةٌ تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ،وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه:يعرف واجبه نحو نفسه،ونحو ربه،ونحو بيته،ونحو دينه،ونحو أمته ووطنه. فالرجولة بإيجاز هي قوة الخُلُق وخُلُق القوة.
فإن خير ما تقوم به دولة لشعبها،وأعظم ما يقوم عليه منهج تعليمي، وأفضل ما تتعاون عليه أدوات التوجيه كلها من صحافة وإذاعة،ومسجد ومدرسة،هو صناعة هذه الرجولة،وتربية هذا الطراز من الرجال في زماننا هذا.ولن تترعرع الرجولة الحقيقية،ويتربى الرجال الصالحون،إلا في ظلال العقائد الراسخة،والفضائل والاخلاق الثابتة،والمعايير الأصيلة،والتقاليد والعادات المرعية،والحقوق المكفولة.أما في ظلام الإلحاد الكافر والانحلال السافر،فلن توجد رجولة صحيحة. كما لا ينمو الغرس إذا حُرِم الماء والهواء والضياء. فلذلك فلم تر الدنيا الرجولة في أجلى صورها وأكمل معانيها كما رأتها في تلك النماذج الكريمة التي صنعها الإسلام على يد رسوله العظيم،من رجال يكثرون عند الفزع،ويقلون عند الطمع،لا يغريهم الوعد،ولا يلينهم الوعيد،لا يغرهم النصر،ولا تحطمهم.
فوالله انها لتُعجبنا ولكنها تؤلمنا في نفس الوقت كلمة نسمعها من رجل غربي مستشرق ليس بمسلم ولكنه درس تعاليم الإسلام السمحة الشاملة فقال في إعجاب مرير عن الدين الاسلامي:يا له من دين لو كان له رجال. وهذا الدين الذي يشكو قلة الرجال يضم ما يزيد على ألف مليار مسلم،ينتسبون إليه،ويحسبون عليه،ولكنهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غثاء كغثاء السيل،أو كما قال الشاعر:يثقلون الأرض من كثرتهم،ثم لا يغنون في أمر جلل. فلن ينهض بديننا ومجتمعاتنا العربية المسلمة رجال أهمتهم أنفسهم، وحكمتهم شهواتهم،وسيرتهم مصالحهم،فلا وثقوا بأنفسهم ،ولا اعتمدوا على ربهم،رجال يجمعهم الطمع،ويفرقهم الخوف.فوالله لو ظفر الإسلام في كل ألف من أبنائه برجل واحد فيه خصائص الرجولة،لكان ذلك خيرًا له وأجدى عليه من هذه الجماهير المكدسة التي لا يهابها عدو،ولا ينتصر بها صديق. أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزق بلادنا وبلاد المسلمين رجالا كصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم امين.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات