اضافات على هوامش العام الثامن عشر من مسيرة "المجد"


في شهر نيسان كانت "المجد"•• فقد انبثقت قبل ثمانية عشر عاماً من خضرة ربيعه، وتعطرت بانفاس ازهاره، وتكللت بندى صباحاته، وتزينت بجمال لوحاته، وتواصت بالحق وتواصت بالصدق، واذّنت في الناس أن حيّ على الكفاح•• حيّ على الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية والمقاومة المسلحة•
في شهر نيسان كانت "المجد"•• فقد خرجت في الناس شاهرة خطابها القومي، ورافعة اعلامها الناصرية، ومدججة بروح الجهاد والعطاء، ومستلهمة عبقرية "انتفاضة نيسان" الشعبية المجيدة التي قلبت عام 1989 موازين القوى بين الشعب والحكم، واسست لانعطافة ديموقراطية محمودة، وسبقت انتفاضات الربيع العربي باكثر من عشرين عاماً•

بسعادة غامرة نزف "المجد" هذا الاوان الى عامها الثامن عشر، بعد ان شبت عن الطوق، وبلغت سن الرشد، واصبحت صبية بهية مفعمة بالشباب والحيوية، وضالعة في الحكمة والخبرة، ومتربعة فوق سجادة واسعة من نسيج المهنية والموضوعية والمصداقية، حيث شهد لها الغريم قبل الصديق، والبعيد قبل القريب بدقة الاحتراف، وامانة المسؤولية، وشجاعة الموقف، وبلاغة التعبير، واخلاقية الطرح والشرح•
على مدى ثمانية عشر عاماً، لم تخرج "المجد" على دستور حياتها، ولم تهبط من علياء خطابها، ولم تدخل في اي مهاترة، او تعمد الى التجريح والشخصنة، او تُخل بمعادلة الحرية والمسؤولية، او تصنع من الحبة قبة، او تقترب من دونيات البلطجة والابتزاز، او تقدم المصلحة الخاصة على الصالح العام، او تفصّل مبادئها على مقاس منافعها وما يعود عليها بالكسب والفائدة، رغم انها تكابد حالة معاشية مدقعة تكاد تبلغ حدود الصفر غير المكعب•

على مدى ثمانية عشر عاماً، لم تغادر "المجد" دائرة مبادئها، او تتنكر لسمو رسالتها، او تتحول قيد انملة عن منطلقاتها وثوابتها•• فقد ابتدأت - ولا تزال - قومية عروبية تدرك ان قوة العرب في وحدتهم وليست في تمزقهم وتشرذمهم، وان حرية العرب رهن سيوفهم ومقاومتهم وليست في خنوعهم وتبعيتهم، وان ديموقراطية العرب تنبع من داخل اقطارهم ووفقاً لنضج مجتمعاتهم ودرجة تطور حياتهم، ولا تُستورد من وراء البحار، او تتحقق عبر الاستقواء بالمراكز الاستعمارية•

على مدى ثمانية عشر عاماً، عملت "المجد" على تلاقي قوى الامة وليس تفرقها، وجاهدت واجتهدت للتوفيق والتجسير والتعاون بين مختلف تياراتها الحيوية الفاعلة، فقد تعانقت على صفحات "المجد" حروف القومي بهجت ابو غربية، والشيوعي يعقوب زيادين، والاخواني همام سعيد، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر، ومن منطلق الرهان على طاقات الامة وقدراتها الذاتية العبقرية، وليس الارتهان للثأريات التاريخية، والمراهقات السياسية التي تعتبر الوطنيين والقوميين بمثابة الاعداء، فيما تصنّف العثمانيين كاشقاء، وتدرج الامريكان والاوروبيين في لوائح الاصدقاء والحلفاء•
نعم•• لقد افسحت "المجد" في المجال امام اوسع تشكيلة قلمية، وتعددية فكرية وسياسية، ومشاركة نخبوية وشعبية، اردنية وعربية، حتى غدت قاسماً وطنياً مشتركاً، ومنبراً عربياً عمومياً، وبيتاً للرأي والرأي الآخر، وملاذاً للمقالات الممنوعة والكتابات المقموعة في الصحف الاخرى•• كل ذلك قبل ان يبدأ عهد الفضائيات، او عصر التويتر والفيسبوك والمواقع الالكترونية•

نعم•• لقد ناضلت "المجد" في الزمن الصعب لاشاعة حق التعبير، وتوسيع رقعة الحريات الصحفية، وتعميم شجاعة المعارضة والمحاسبة والانتقاد، وملاحقة اوكار الفساد ورموز الاستبداد، ومهاجمة اصحاب اوسلو ووادي عربة ومتواليات الصلح والتطبيع•• وقد دفعت - لقاء ذلك - ثمناً فادحاً، وتعرضت لمختلف صنوف العذاب والعقاب، بدءاً من الاعتقال، ومروراً بالمصادرة والتعطيل ومنع الطباعة، وانتهاءً بالجرجرة في المخافر والمحاكم لما ينوف عن عشرة اعوام•
غير ان "المجد" ابت ان تستقوي بالاجنبي، او تستعين بالمحافل الخارجية•• بل ظلت تعض على الجرح، وتلتزم بعهد الوفاء للوطن والامة حتى في احلك الاوقات•• والشاهد تلك الواقعة المؤلمة التي اقترفها المدعو سميح البطيخي، مدير المخابرات العامة سنة 1997، واراد بها القضاء المبرم على "المجد" حتى لا تقوم لها قائمة، وهو الامر الذي اثار يومذاك ضجة واسعة في اوساط الصحافة والرأي العام، تخللها اتصال هاتفي من السكرتير الثاني - مسؤول حقوق الانسان في السفارة الامريكية بعمان يطلب لقاءً بنا لغرض التحقيق في هذه الواقعة، تمهيداً لرفعه الى رؤسائه في وزارة الخارجية•• ولكن ردنا كان حازماً وحاسماً وحافلاً بالكبرياء الوطني، حيث قلنا له اننا نؤثر ان تدوس سلطات بلادنا في حلوقنا على ان نستقوي بكم عليها، او نستعين بكم لتحصيل حقوقنا وحرياتنا، وقد نشرنا كل ذلك، في حينه، على صدر صفحة "المجد" الاولى•

هذا الموقف المبدئي والاخلاقي الذي يقدم الالتزام الوطني على الاعتبار الشخصي، ويغلّب التناقض الرئيسي مع العدو الامريكي على التناقض الثانوي مع السلطات الاردنية•• اين منه مواقف المعارضين الجدد، وثوار الناتو من متسلقي ثورات الربيع العربي الذين سارعوا الى الاستقواء على بلادهم بالعواصم الاستعمارية، وطالبوا جهاراً نهاراً•• مراراً وتكراراً بالحماية الاجنبية، والمناطق العازلة، والتدخل العسكري المباشر ؟؟ بل اين منه اعلام الفضائيات المسعورة، والاقلام المأجورة التي وضعت ذاتها في خدمة اخطر المشاريع الامبريالية والرجعية والصهيونية، كما سخّرت كل طاقاتها وامكاناتها لمجابهة قوى المقاومة والممانعة والصمود والانتماء العروبي ؟؟
انظروا كيف يتولى هذا الاعلام المسنود بالتمويل الخليجي والاجنبي، مهمات تشويه الوعي، وتضليل الناس، وخلط الاولويات، والتلاعب بالعقول، والتعتيم هنا والتضخيم هناك، والتنكر لابسط قواعد المهنة، والتباهي بالفبركة والاختلاق والهمبكة باعتبارها مهارة وشطارة، ثم الكذب المضاعف تارة بالصمت عما يجري، وتارة اخرى بالحديث عما لا يجري•• الامر الذي دفع الكثيرين الى اعادة الاعتبار للاعلام الرسمي والاجنبي بعد طول هجر وافتراق•
انظروا كيف يتسبب هذا الاعلام المسموم في افساد ثورات الربيع العربي، وحرفها عن جادة الصح والصواب، ومنحها مضامين الثورة المضادة، ووضعها في نقطة التصادم مع حقيقة مبادئها ومنطلقاتها وغاياتها، حتى اوشكت ان تتحول الى معول هدم وتخريب وتفكيك للدول والمجتمعات الرازحة اصلاً تحت وطأة مصاعب وازمات وانقسامات قاتلة، وتتوهم ان الفوضى والتسيب والانفلاش بعض اشكال الحرية ومشتقاتها ومترادفاتها•

انظروا كيف استطاعت دولة مجهرية مثل قطر ان تتلاعب، عبر سلاح المال والاعلام، بمصير دولة محورية مثل مصر؟؟ وكيف تمكنت دول العشائر والمشيخات الخليجية ان تفلت، عبر ذات السلاح، من ثورات الربيع العربي، وان تقذف كرة النار في ملاعب دول اخرى تتفوق عليها كثيراً في مضمار الحرية والديموقراطية والتقدم الحضاري وحقوق الانسان ؟؟ وكيف تفردت هذه الدول الرجعية والرعوية، في غياب القاهرة وبغداد وبيروت، بشراء المواهب، واستئجار القرائح، ورصد الجوائز الادبية والفنية، وتبديل المبادئ والقناعات الوطنية والقومية والتقدمية، ونشر الافكار السلفية والوهابية والمذهبية التي تبدد ولا توحد، وتفرّق ولا توفق، وتضع الماضي وليس المستقبل امام انظار الجماهير ؟؟

لكل هذا، ولغيره ايضاً تصبح "المجد" واخواتها من الصحائف والمراكز والمنابر الاعلامية القومية والتقدمية حاجة ضرورية ولزومية لرد غائلة هذا الطوفان الرجعي الخليجي من جهة، والتصدي بنفس الدرجة، للزحف التغريبي والتخريبي الاوروبي والامريكي واليهودي من جهة اخرى، حيث يتقاطع هذان الطرفان ويتكاملان في الغايات والاهداف، ويشكلان وجهين لعملة واحدة رغم اختلاف الوسائل والاساليب•• ذلك لان كليهما يتوخى تلويث عقل الامة، وابعادها عن روحها العروبية والوحدوية، وتفريغها من الطاقات النهضوية والحيوية والابداعية، وتمزيقها جغرافياً وديموغرافياً وفقاً لمساطر وقياسات عرقية وطائفية وقبلية، ودفعها نحو مهاوي الاحتراب والاصطراع والاقتتال والعمل ضد ذاتها ومبادئها ومصالحها الحقيقية•

في خضم هذا التيه والتشويه والتسطيح العدمي الذي تنفخ فيه فضائيات الفتنة، وصحف الردة، وفتاوي التكفير وارضاع الكبير، تبرز الاهمية الكبرى لوجود روافع ومنصات اعلامية عصرية وتنويرية وعروبية، مهما بلغت محدودية دورها وتأثيرها، ومهما كانت مكدودية مواردها وامكاناتها، قياساً بما يمتلكه اعلام الغاز والطوز الذي تحول في السنوات الاخيرة الى صناعة ثقيلة باهظة التكاليف، وفادحة الاخطار والاضرار، وقادرة على توزيع سموم مخرجاتها بالمجان•
المهم ان نقاتل هذا الاعلام الفاجر، وان ننازله دون هوادة، فلا نستسلم له ونسلم بتفوقه، او نيأس من ضعف امكاناتنا وضآلة دورنا مقارنة بما لديه•• فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله، وكم من صاحب رأي او موقف شجاع انتصر على حشد من المرجفين والدجالين•• وقديماً قال الامام علي : "ان رأياً واحداً شجاعاً•• اكثرية"•
المهم ان نراهن على المستقبل، ونؤمن باصالة الامة، ونوقن ان الحالة الفوضوية الراهنة مجرد مرحلة عابرة، وان الموجة الدينية والمذهبية محض زوبعة جوفاء لن تلبث ان تجد نهايتها ذات وقت قريب، وان استعادة الوعي القومي والمشروع الوحدوي والنهضوي العربي مسألة حتمية، وضرورة تاريخية - وربما اجبارية - في ضوء افلاس المشاريع والايدلوجيات البديلة•

نعترف ان دعاة الحركة القومية، وحملة الراية العروبية ليسوا في افضل حالاتهم، ولا هم الآن اصحاب الكلمة العليا في الشارع الشعبي، الا ان ما يكفيهم فخراً، ويملأهم املاً، انهم مخلصون لمبادئهم، وثابتون على مواقفهم، ومتصالحون مع انفسهم، ومتحالفون مع تاريخ امتهم، ومؤمنون بعظمتها، وملتزمون بخلود رسالتها، وموقنون بان المستقبل سيكون لها، مهما بلغت قسوة الزمن الحاضر ومعضلاته•

وبعد•• في عيد ميلادها الثامن عشر، تحيي "المجد" سائر قرائها واصدقائها الاحباء والاوفياء، وتنقش حروفها وشماً على وجنات الورق، وتقدم اوراق اعتمادها مجدداً الى خمائل نيسان، وتفتح صفحة اخرى في رزنامة الصمود والثبات، وتجدد العهد والعزم على مداومة العطاء ومواصلة المشوار، وتكرر الالتزام بامانة المسؤولية وثقافة الحوار وجماليات اللغة البلورية، ثم تعرج على دوحة جمال عبد الناصر لتتزود بقبسات من نقاء وضياء ومضاء وكبرياء هذا القائد الخالد•• وكل عام وانتم بخير !!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات