الإدراك الروسي لديكتاتورية الجغرافية السورية


إنّ من يسيطر على سوريا – قلب الشرق، يسيطر على الممر الإستراتيجي لجلّ الشرق الأوسط، وبالتالي يتحكم ويسيطر على كلّ أوراسيا العظمى وأسيا الوسطى، حيث الصراع في سوريا وعلى سوريا، هو صراع على الشرق كلّه وقلبه سوريا بنسقها السياسي وموردها البشري، والفدرالية الروسية تدرك ذلك جيداً.
وإذا كان علم فن إدارة الأزمات, من العلوم التطبيقية حديثة النشأة والتطبيق, فانّ علم ما يسمى بالإنذار المبكر, من ذات العلوم الاستقرائية والبحثية حديثة النشأة, والاشتباك بتفاعل أيضاً, انّه علم الفن وفن العلم, ضمن الاستقرائيات لأي تداعيات أي حدث كان, وهو ليس أداة تجرح كما في علم الاستخبار.
انّه علم يركز بعمق على بؤرة الحدث أي حدث كان, إن بفعل البشر وان بفعل الطبيعة, ويسعى إلى التعرف والتمحيص في مكونات تلك البؤرة, وعمل أدائها السلوكي ومفاعيله وتفاعلاته, ثم التقاط موجات وإشارات البث المنبعثة والمنطلقة, من نقطة المركز, ومحاولات معرفة وقراءة وفك شفرات هذه الموجات والإشارات, ليصار إلى الوصول لمعرفة وسبر غور طبيعة وشكل السيناريو القادم, أو SCENARIO BUILDING EXERCISES , حيث تعد الأخيرة مجرد احتمال, وان كان الأخير في السياسة ليس يقيناً, لكن جل المسألة في علم الإنذار المبكر, يتيح ويسمح وضع الاستعدادات والترتيبات اللازمة, لعمليات احتواء المخاطر وتعزيز الفرص.
وتعد أجهزة الاستخبار والمخابرات المختلفة, من أكثر المؤسسات في المجتمعات المكونة للشق الديمغرافي للدول, استخداما لهذا النوع من العلم والمعرفة, وان كان أول من استخدم هذا المعرفة وعلى الفطرة في التاريخ البشري, (معرفة الاستخبار والرصد والإنذار المبكر), هو أحد ابني آدم عندما قام برصد تحركات شقيقه لقتله.
إن لمفاعيل وتفاعلات الحدث الاحتجاجي السياسي السوري, إن لجهة العرضي منه, وان لجهة الرأسي منه, تداعيات عديدة عابرة ليس فقط لدول الجوار الإقليمي, بل للقارات التي تشكل المعمورة ككل.
وبالرغم من عمق سلّة الاحتجاجات السياسية السورية, ومرور وقتا طويلاً على اندلاع شراراتها, فانّ النسق السياسي السوري ما زال متماسك, إن لجهة التماسك المؤسساتي الدولاتي للجيش, وقوى المخابرات والأمن الداخلي, وان لجهة تماسك الكتلة البشرية في دمشق – العاصمة السياسية, وفي حلب – عاصمة المال السوري, وهذا وفّر له القدرة الأكثر والأكبر والأقدر والأفعل, لجهة الإمساك بزمام المبادرة والسيطرة, ولجهة ضبط التفاعلات الداخلية وآثارها أيضا.
باعتقادي وظني وتقديري, أنّ الأثر الأممي(العدوى كنتيجة) للحدث السوري, سيقود في نهاية المطاف, إلى إعادة تشكل وتشكيل جل المشهد الدولي من جديد, والى عالم متعدد الأقطاب والنهج, في حين وبعد أن أخذت عدوى الحدث السوري, طابع إقليمي وعابر للحدود السياسية المصطنعة, ولحدود جغرافيا الطبيعة والتاريخ أيضاً, في تماثل محطاته وتساوقه, لجهة الماضي وعبر حاضرها, ومستقبلها, ونستولوجياها, فانّ الأمر كلّه بحاجة إلى عمليات استقرائية شاملة وناجعة وناجزة, توفر لصانع القرار السياسي والأمني, في ساحات دول الجوار الإقليمي – السوري, لجهة الضعيفة منها ولجهة القويّة على حد سواء, توفير قاعدة بيانات ومعلومات في غاية الدقة والضرورة, من أجل أن تحسن التصرف والتعامل, مع جلّ المشهد.
للحدث السوري عقابيل إقليمية, عرضية ورأسية وضغوط متعددة, والتساؤلات التي تفرض نفسها بقوّة, عندّ إعمال العقل في الحدث السوري عديدة ولكن أهمها هي:- ما هي مدايات ومساحات, قدرة ساحات دول الجوار الإقليمي السوري, من تركيا وبغداد, إلى عمّان وبيروت, في احتجاز وصد ضغوط هذه العقابيل الإقليمية, لذات ميكانيزمات الحدث السوري؟ ما أثر تلك العقابيل على إيران ذاتها, الدولة الإقليمية الجارة والتي تدخل في حالة صراع لا تنافس مع تركيا؟ والى أي مدى تستطيع الدولة العبرية - الكيان الصهيوني – احتجاز وصد, ضغوط ما يجري في الشام عن نفسها؟!.
لا شك أنّ القوام الجيو – سياسي السوري, يمارس ويتفاعل بقوّة على مجمل, مكونات الخارطة الجيو – سياسية الشرق الأوسطية, وكما تشير معطيات التاريخ والجغرافيا, إلى أنّ تأثير العامل السوري, كعامل إقليمي حيوي في هذه المنطقة, تتطابق آليات عمله وتأثيره, مع مفهوم العامل الجغرافي الحتمي, والذي تحدث عنه جميع خبراء علم الجيويولتيك, وعلم الجغرافيا الإستراتيجية, وعلم الجغرافيا الإقليمية, وحتّى علم الجغرافيا المناخية, حيث تؤكد معطيات العلم الأخير, بأنّ الطبيعة المناخية لدول الجوار الإقليمي السوري, لن تستطيع مطلقاً الإفلات من تأثيرات العامل المناخي الدمشقي.
وبناءً وتأسيساً, على معطيات وثوابت الجغرافيا السياسية- الإقليمية ومحركاتها, فانّ استمرار ما يجري في سوريا, من احتجاجات سياسية بالمعنى العرضي والرأسي, سوف تكون مخرجاته بالمزيد تلو المزيد من عمليات التعبئة السلبية الفاعلة, إن لجهة لبنان, وان لجهة الأردن, وان لجهة العراق المحتل, وان لجهة أنقرا نفسها, أضف إلى ذلك الشمال الفلسطيني المحتل – الدولة العبرية حتّى اللحظة.
فعندما قدّمت عمّان - الرسمية بعض التنازلات, هدأت فعاليات الاحتجاجات السياسية الأردنية, و التي قادتها وأطلقت شرارتها الحركة الإسلامية الأردنية, ومعها الحراك الشعبي الأردني, ولكن وبفعل استمرار فعاليات ومفاعيل الحدث الاحتجاجي السوري, الذي يقع تحت سيطرة (وبنديرة) الإسلاميين السوريين, فانّ الحركة الإسلامية الأردنية, عادت وأشعلت لغة خطابها السياسي بعنف ناعم، مع الدفع بالاحتجاجات السياسية الأردنية من جديد، ودخلت في حوارات وتفاهمات مع خصوم دمشق، من أمريكان وإنجليز وفرنسيين وغيرهم, وستصعد لاحقاً حسب جل المؤشرات التي يصار إلى رصدها شعبياً ورسمياً, كي يتساوق ويتماثل الحال هنا مع الحال في سوريا, تساوق وتماثل المشهدين الاحتجاجيين السياسيين, السوري والأردني وما ورائهما من أهداف, مع الاختلاف في المشهد الأردني حيث لا عنف ولا عنف مضاد, لكن الحال المسالم في جلّ المشهد الأردني، استنزاف لطاقات الطرفين – الدولة والحراك.
سعت قوى 14 آذار اللبنانية – مثلث جعجع – الجميّل - الحريري, لجهة القيام بتقديم الدعم المالي, واللوجستي, والعسكري, لعناصر إشعال الاحتجاجات السورية, مع القيام بدور جسر العبور, للمساعدات الغربية وبعض العربية الخليجية, على أمل أن يؤدي ذلك, إلى انهيار النسق السياسي السوري, وفي ذات الوقت يتيح تحقيق بنك, من الأرباح والمنافع الخاصة, لهذا المثلث اللبناني العميل, هذا وتعتقد إدراكا قوى 14 آذار, بأنّ انهيار النسق السياسي السوري بالضرورة, سوف يؤدي إلى انهيار معسكر حزب الله اللبناني, وحليفه التيار الوطني, وكل قوى 8 آذار الأخرى, ومع كل ذلك لم يتحقق هذا الشيء إلى الآن, وصار اعتقادهم وهماً أعمى بصرهم وبصيرتهم, وكان وهماً افتراضياً, والأسباب تموضعت وذهبت إلى الآتي:-
لأنّ الساحة السياسية اللبنانية, وتحديداً الرأي العام اللبناني, تعرض وبفعل تفاعلات ومفاعيل الحدث السوري, إلى عمليات اصطفافات واستقطابات جديدة, فنتيجة إدراك المجتمع المسيحي السوري, لخطر التوجهات السلفية الوهابية المتطرفة, هو إدراك انتقلت عدواه بالضرورة للمجتمع المسيحي اللبناني, لقد التقط كل من مجتمع الموحدين الدروز اللبناني, ومعه المجتمع المسيحي اللبناني, الإشارات القادمة والمنبعثة, من امتداداتهم المجتمعية الموجودة في الديمغرافيا السورية على ذات الجغرافيا ودورها.
لقد قادت عملية التغذية العكسية, إلى جعل تكتل وتمحور جعجع – الجميّل, يخسر الكثير ويدفع أثمان باهضة, حيث قاد الأنف ذكره الرأي العام المسيحي اللبناني, ليقف إلى جانب معسكر وتكتل وموقف, العماد عون زعيم التيّار الوطني الحر, الحليف لخط علاقات دمشق – حزب الله – فصائل المقاومة اللبنانية الوطنية, وبعبارة أخرى أكثر وضوحاً, كلما استمر دعم أطراف مثلث جعجع – الجميّل – سعدوه الحريري, لفعاليات الاحتجاجات السياسية السورية, ذات الطبيعة الوهّابية الأصولية المتشددة, كلما تراجعت وتآكلت قواعد الدعم الشعبوي اللبنانية, لأطراف مثلث قوى 14 آذار.
في المحطة العراقية نجد التالي: انطلقت وبشكل متزامن وسريعاً, فعاليات احتجاجات سياسية عراقية, استهدفت حكومة المالكي نوري أبو إسراء – في جزء منها, في حين استهدف البعض الآخر من فعاليات الاحتجاجات السياسية العراقية, كل الوجود الأمريكي الأحتلالي للعراق، حتّى ما بعد الانسحاب المزعوم نهاية العام الماضي، حيث وصفناه في تحليلاتنا السابقة، أنّه بمثابة " هندرة" احتلالية جديدة, مع التنديد والاحتجاج والتأشير, على الدور السعودي الداعم لاستمرار تداعيات " هندرة" الوجود الأمريكي الأحتلالي للعراق, كما ظهر وبان وعبر التصريحات الإعلامية المتلاحقة, في المشهد العراقي الشعبوي الاحتجاجي, وعلى سلّة خلفيات انخفاض وتائر شدّة الاحتجاجات السياسية العراقية, تزايدت عمليات العنف الهيكلي ذات وتائر مرتفعة الشدّة, بسبب تزايد الأنفجارات الأخيرة, وعمليات قنص وإطلاق النيران المعادية والصديقة, والتي أسقطت فيما أسقطت الكثير من المدنيين العراقيين, أكثر مما أسقطت من الجنود الأمريكيين المحتلين.
بعبارة أكثر تجليّاً واستشرافاً للمخفي في المشهد العراقي, كمتلقي لتداعيات الحدث السوري السياسي الاحتجاجي, إن الأيادي المخابراتية الشبح, سوف تعمل وتسعى بقوّة, إلى استغلال عدوى فعاليات ومفاعيل الحدث السوري في الداخل العراقي, عبر إطلاق المزيد من عمليات العنف, بما يؤدي بالضرورة, إلى توفير المزيد من الذرائع والمبررات, التي تقود وتدفع إلى بقاء واستمرار, الوجود العسكري الأمريكي الأحتلالي في عراقنا المحتل.
أمّا بخصوص عقابيل تداعيات, وعدوى الحدث الاحتجاجي السوري, لجهة الجارة المسلمة الكبرى الدولة التركية, فإنها تتعدى ملفات الحراك الانفصالي الكردستاني التركي, وجلّ الكتل الكردستانية الأربع, لجهة شمال غرب إيران – حيث بيجاك, وان لجهة شمال العراق المحتل, والذي يلعب فيه الموساد كيفما يشاء, حيث وكيل الأخير PKK , وان لجهة مناطق جنوب شرق تركيا, وان لجهة شمال شرق سوريا, فمكانة سوريا قلب الشرق العربي, مكانة ضرورية وهامة بالنسبة لمكانة تركيا, ومجلس الأمن القومي التركي, ومعه مؤسسات المخابرات التركية, بفروعها الخارجية والداخلية, وعبر حالات عصف ذهني مخابراتي, قادها الشاب هاكان فيدان مدير المخابرات التركي, توصلت إلى قناعة راسخة, مثل شروق الشمس من الشرق, بأنّه لن تستطيع أنقرا ممارسة الدور الإقليمي, واكتساب المكانة التي تليق بها, عن طريق سياسة ومفهوم:- (ردع سوريا), فشرق المتوسط تغير, وهو الآن لم يعد كما كان في القرن الثامن والسابع والسادس عشر, وكذلك الحال بالنسبة لدمشق, فلم تعد الأخيرة كما كانت في القرون السادس والسابع والثامن عشر.
والحقائق التاريخية والطبيعية تتحدث عن نفسها, فالتاريخ التركي تلازم بعمق, بالجغرافيا السورية – قلب الشرق ومعطياتها, مقابل تلازم التاريخ السوري مع الجغرافيا التركية, فالسوريون الأمويون, استخدموا ووظفوا واستثمروا, الممر التركي كجغرافيا, ليصلوا إلى مناطق القوقاز الشمالي وآسيا الوسطى, في حين نجد أنّ العثمانيين, وظفوا الممر السوري – الجغرافيا, ليصلوا إلى مصر وشمال أفريقيا والجزيرة العربية, والمفارقة العجيبة في هذه المسألة تكمن, في استبدال حكومة حزب التنمية والعدالة التركي, قناعاتها التاريخية الصحيحة السابقة, بقناعات مستحدثة, تقوم على تجاوز سوريا, والذهاب مباشرةً إلى شبه الجزيرة العربية, وشمال أفريقيا ومصر.
إنّ الجغرافيا السورية, لها ديكتاتوريتها الخاصة, التي وهبها الله لها لجهة موقعها, دون أدنى تدخلات للأنسقة السياسية التي حكمتها, أو حتّى الحضارات التي تكالبت عليها, لذلك أبت وتأبى جغرافيا سوريا, بأنّها عصية على التجاوز والتخطي, أيّاً كان طراز الطائرات, أو السيّارات التي أقلّت وتقل, غول وأرودوغان وأوغلو احمد داوود, من تركيا إلى السعودية وقطر وبالعكس.
في المشهد الدولي وكما قلنا في البداية, لعقابيل الحدث السوري أثار واثارات, تقود إلى عالم متعدد الأقطاب, كون تلك العقابيل تتخطّى حدود الشرق الأوسط والشرق الأدنى, ولأنّ روسيا والصين تدركان ذلك جيداً, قادهم ذلك إلى عمليات عرقلة وإعاقة, لاندفاعات زخم الاستهداف الأمريكي – الأوروبي – بعض العربي, لجهة سوريا ونسقها السياسي عبر الفيتو ولمرتين، وتأتي زيارة وزير الخارجية الروسي، ومدير الاستخبارات الخارجية، لدمشق أمس في ذات هذه السياق الإدراكي الروسي الإستراتيجي، وقد تعقب الزيارة الروسية الدبلوماسية – المخابراتية، زيارة مماثلة لوزير الخارجية الصيني، ورئيس جهاز الاستخبارات الصيني الخارجي, وهذا ما لم تدركه أنقرا, بالرغم من وجود الاستراتيجيين الثلاثة في الحكم, غول, وأرودوغان, وأوغلوا احمد, في حين سعت وتسعى العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي, إلى لملمة حلفائها وقدراتها, لجهة القيام باستغلال وتوظيف وتوليف فعاليات ومفاعيل, الحدث الاحتجاجي السوري, وأحسب أنّ خط علاقات واشنطن – تركيا, إزاء الحدث السوري تماماً هو كزواج مؤاتي MARRIGAGE OF CONVENIENCE .



تعليقات القراء

مدرك الماركه
اني
مش مدرك
ولا
شيله
بيله
07-02-2012 12:29 PM
اصلا
اصلن
اني
ساقطن
بالتوجيهي
وبالمترك
كمانه
(وبالذات:باجغرافيه)
07-02-2012 12:31 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات