رخصة دولية للقتل


جراسا -

كالعادة، في كلّ حرب تعصف ب#غزّة وأهلها، تمتلئ الشاشات، والصحف والمواقع الإخبارية، بالتحليلات والحسابات السياسية. كم هي متعبة ومثيرة للاشمئزاز الحسابات أمام هول المجازر؟ كم #فلسطينيا يجب أن يقتل حتى يرتوي غلّ ال#إسرائيليّ ومن يدعمه ويتعاطف معه؟ ما النسبة المناسبة؟ أربعة أضعاف، خمسة، عشرة، ألف ضعف؟ الفلسطيني اعتاد أن يُقتل بأرقام فلكيّة، أما الإسرائيليّ فهذا أمر جديد تماما عليه. علينا مراعاة هذا الفارق. علينا، نحن المتفرّجين على المأساة، أن نتسامح قليلا في الحسابات. إذا كان حصاد القتلى الفلسطينيين في الحروب "الاعتيادية" ألفا أو ألفين، فلا بأس أن يصل هذه المرة إلى عشرين ألفا. الوحش غاضب. إله الحرب غاضب. وإله الحرب يريد أن ينتقم. سيوفه الحديد لا ترويها قطرات الدم هذه المرة، بل يحتاج إلى "طوفان" من الدم. يجب أن تمحق غزة وتمحى، قبل كل الكلام والصفقات والتسويات.


العالم يعيش لحظة توراتية بامتياز. لحظة نقرأ عنها في الأساطير وفي الملاحم. لغة اللسان ليست ببعيدة في عنفها وجذريّتها عن لغة الطائرات والقنابل والصواريخ. يجب محاصرة غزّة المحاصرة أساسا. غزة قلعة "الحيوانات البشرية"، كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي، فلنقطع عنها الماء والكهرباء والطعام والهواء والأمل، بل وحتى الحدّ الأدنى من التعاطف. أولئك الأطفال الذين تفرم لحمهم آلة الحرب الإسرائيلية في غزة، ليسوا أطفالا كسائر الأطفال. تلك الرؤية القيامية السوداء لا ترى أطفالا، بل لا ترى شيئا ولا ترى أحدا. القاتل مجروح في كبريائه، وعلينا جميعا أن نسترضي تلك الكبرياء. نحن أهل الضيافة والكرم والمروءة علينا أن ننحني إجلالا لدم الإسرائيلي، لأنه دم غير اعتيادي، أما الدم الفلسطيني والعربي فاعتيادي، وحلال. هكذا بدأت الحكاية. وهكذا تكتب سطورها اليوم مرّة أخرى.


على شاشة التلفزيون، نائب إسرائيلي سابق، يقدّم خلاصة المسألة: قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، كان كلّ شيء على ما يرام، كنا نعيش بهدوء وسلام، كنا نتقرّب من جيراننا، كان 20 ألف عامل فلسطيني يدخلون إلى إسرائيل، كلّ هذا تغيّر في لحظة واحدة. هذه ليست نظرة عضو الكنيست وحده، بل هي نظرة العالم أجمع. كلّ شيء كان طبيعيا. الحياة كانت جميلة. حدائق الأمل زاهرة وآفاق المستقبل مزدهرة والسلام على الأبواب. أصبح حصار غزّة، والقتل اليومي للفلسطينيين في كلّ مكان، أمرا مألوفا واعتياديا، إنه ثمن جانبي لحالة اللا حرب واللا سلام، لواقع وجود دولة إسرائيلية يتمتع أهلها بالحقوق والصفات الإنسانية كافةً، وفي مقدمها الكرامة، في جوار شعب بلا دولة، شعب دولته مستحيلة مثل حاضره ومستقبله، شعب كرامته فائضة على الحاجة مثل حياته.

الألم وحده امتياز الفلسطيني. خمسة وسبعون عاما من الاحتلال والقتل والتهجير والحصار، يفترض بها أن تكون روّضت تلك "الحيوانات البشرية"، لا للقبول بما يقدّم إليهم وما يعرض عليهم فحسب، بل لإبداء السعادة والحبور بذلك. يجب أن يكون الفلسطينيّ "المسترقّ" ممتنا لما يقدّمه إليه "السيد" من طعام وشراب وغاز وكهرباء. اليوم، أمام وليمة الدم المفتوحة، يجب أن يقدّم لحم أبنائه طواعية لهذا الإله الساخط. إله ينظر إلى كلّ فلسطيني النظرة عينها. كلّ فلسطيني هو "حماس" وكلّ فلسطيني إرهابي، وكلّ فلسطيني يستحق راهنه البائس ومستقبله الأسود. هذه هي المعادلة الوحيدة الممكنة. طوال عقود، لم يسمع أحد صوت "العقلاء" من الفلسطينيين الذين ظلّوا يحذّرون من عواقب هذا الاستخفاف المهين بالإنسان الفلسطيني وكرامته. لم يسمع أحد صوت دعاة السلام. لم يكترث أحد بدموع آلاف الأمهات اللواتي يفقدن أبناءهن يوميا. لم يسمع أحد آهات الحسرة والألم أمام الإهانة اليومية على المعابر والحواجز العسكرية. لم يرد أحد أن يسمع. كان المطلوب دائما أن يتألم الفلسطيني بصمت، لأن بكاءه وصراخه يزعجان "السيّد" ومناصريه وداعميه.

ربما لا يصدّق العالم، أن الغالبية العظمى من الفلسطينيين، بمن فيهم أولئك المحاصرون، لا يشعرون بالسعادة لمقتل المدنيين الإسرائيليين، لا لأنهم متفوقون أخلاقيا، ولا بسبب شيفرات دينية وإنسانية، ولا بسبب الحسابات السياسية أو الخوف على "صورته"، إنما في المقام الأول لأنه ذاق ويذوق يوميا طعم الظلم، ويعرف معنى قتل طفل أو أيّ إنسان عاجز أمام بطش القوة العاتية. عقود من الاعتداءات الوحشية والممارسات العنصرية والعرقية، لم تجعل الفلسطيني وحشا، مثلما أرادت دولة الفصل والجدران والاحتلال، ومثلما يحاول أصدقاء إسرائيل اليوم تصويره، بل جعلته يعلي أكثر قيمة الحياة الإنسانية. وليس على أولئك المندهشين من وقوع إسرائيليين في الأسر، سوى القيام بزيارة سريعة لأرقام المنظمات الدولية، قبل الجهات الفلسطينية، حول عدد الفلسطينيين، بمن فيهم النساء والأطفال، القابعين منذ سنوات في سجون الاحتلال.
العالم مصدوم، مذهول، مفجوع، بعدد القتلى الإسرائيليين. لن ننتظر طويلا قبل أن يصل عداد القتلى الفلسطينيين إلى أرقام مضاعفة. آلة القتل حريصة على ذلك، وتمتلك رخصة دولية لفعل ذلك. تعلمنا التجربة، والأجواء القائمة حاليا، أن عدد القتلى الفلسطينيين سيكون فلكيا. لن يصدم أحد ولن يصاب بالفجيعة والذهول. لن تتساوى كفتا الميزان في النهاية، لأنه بالنسبة إلى العالم المتفرّج، بل والشريك في المذبحة، دم الإسرائيلي دم، ودم الفلسطيني محض هباء.

سامر أبو هواش - شاعر وكاتب ومترجم من فلسطين.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات