الاقتصاد المصري: اختناق أم انطلاق؟!


جراسا -

اندلعت شرارة الثورة الصناعية، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، لحظة مفصلية في حياة الإنسانية، خرجت من رحمها ثورات علمية تكنولوجية لا سابق لها، شكلت مضامين اقتصادية واجتماعية وحضارية، صاغت تحولات جوهرية في التاريخ ولا تزال. باتت الصناعة القطاع الأكثر قدرة على تحقيق الأمن الاقتصادي لدولة ما؛ تكفل استقلالها الاقتصادي واستقرارها الداخلي؛ تغلق القاعدة الإنتاجية المتنوعة أبواب التبعية للخارج، بأشكالها الاقتصادية والتكنولوجية؛ تبدو الصناعة طريقاً متميزاً إلى التنمية والتحرر؛ حتى قال بعض الاقتصاديين إن التنمية هي التصنيع والتصنيع هو التنمية.

ثورات حضارية
أجمع المؤرخون على أن الإنسان قام، عبر القرون، بثورات حضارية ليحافظ على الحياة ويتجنب غوائل الطبيعة، ثورات أتاحت طرقاً مبتكرة لرؤية العالم والتعامل معه، قادت إلى تغييرات عميقة في حياة المجتمعات. كانت مصر مهداً للثورة الزراعية التي غرست بذرة الحضارة الأولى على ضفاف النيل، وشهدت الإسكندرية إرهاصات الثورة الصناعية، قبل ألفي عام، عندما ابتكر العالم هيرون السكندري أول محرك أو آلة بخارية؛ لكن "الثورة الصناعية" تجسدت حقيقة في بريطانيا، ثم فرنسا وأميركا، ما قاد لعقد اجتماعي جديد بين المجتمع والدولة؛ فتعززت مكانة المجتمع مع تنامي قوة مؤسساته، واحتفظت الدولة بالسلطة، لتترسخ الروابط العضوية والوظيفية بين المجتمع والدولة، مثلما تجلى في كتابات هيغل وماكس فيبر.

عقب الحرب العالمية الثانية، شهدت الاقتصاديات الدولية معدلات نمو هائلة. كان التطور الصناعي كلمة السر، ثم أخذت الأزمات الاقتصادية تتوالى عالمياً، واحدة تلو الأخرى؛ مثل أزمات: الغذاء عام 1970، النظام النقدي 1971، المديونية 1982، جنوب شرق آسيا 1997، الأزمة العالمية عام 2008، وصولاً إلى أزمة جائحة كورونا، ثم الحرب في أوكرانيا وغيرها. أثبتت الأزمات أهمية القاعدة الإنتاجية في تقليل الارتدادات الناجمة عنها، وضمان الأمن الاقتصادي للدول. إن ضعف القطاع الصناعي وزيادة الواردات يجعل الاقتصاد هشاً منكشفاً على الخارج.

لقد شنت الدول الكبرى (المتقدمة صناعياً) حملات ممتدة؛ لعرقلة دول الجنوب عن دخول "النادي الصناعي"؛ لتكريس تبعيتها واستهلاك مواردها. مصر مثال ساطع، كانت أول دولة غير أوروبية تسير في ركب التطور في العصر الحديث؛ لكن الرأسمالية العالمية أجهضت تجربتي محمد علي باشا وجمال عبد الناصر النهضويتين؛ لمنع مصر من أن تصبح مورداً إقليمياً ودولياً للمعارف والتكنولوجيا والسلع، والإبقاء عليها مستهلكاً صرفاً.

اليوم، تسعى مصر لإيجاد نموذج اقتصادي قادر على توليد نمو مستديم، وتقليل الاعتماد على تصدير المواد الخام؛ للخروج من عنق الزجاجة؛ حتى لا يستمر الاقتصاد نقطة ضعف في بنية القوة الشاملة للبلاد؛ الأمل معقود على تنفيذ إصلاحات اقتصادية (لا مالية فقط)، وتشغيل محركات الاقتصاد بكفاءة؛ باعتباره عنصراً حاسماً لتعزيز سيادتها.

قاطرة النهضة
فلا يمكن إحداث نقلة اقتصادية تكون قاطرة لنهضة حضارية شاملة، إلا إذا كان محورها إصلاحاً هيكلياً في بنود الموازنة، وجذب الاستثمارات الحقيقية، والحد من الاقتراض، أما الأهم فهو تدشين عملية تصنيع متقدم وبناء اقتصاد المعرفة، بوصفها نقطة فاصلة بين الانطلاق والاختناق.

لكن بناء اقتصاد أكثر كفاءة ومرونة يستدعي مواجهة المشكلات المزمنة، منذ أحقاب، كمعدلات الاستثمار المنخفض وغلبة الطابع الريعي وعدم كفاءة شركات بقطاع الأعمال العام والخاص، ما يحد من قدرة الاقتصاد على التحديث واسع النطاق. حالياً يعاني الاقتصاد المصري أزمات تضخم وتمويل وتشغيل وتفاوت في الدخول، مشكلات ليست وليدة العصر الراهن، بل تمتد إلى عشرات السنين. ظلت محاولات التنمية مشوهة أو غير قادرة على حلحلة معضلات الاقتصاد، منذ بواكير القرن العشرين. لم يكن زمن الملكية كما يتوهم بعضهم، جنة موعودة، بل اقتصاد مشوه تابع للاستعمار، بينما حققت اشتراكية عبد الناصر إنجازات تنموية، لكنها لم تكن تجربة كاملة، فتهاوت سريعاً، تحت ضربات انفتاح "السداح مداح" الساداتي، وفي عهد مبارك لاحت الفرصة لجلب الرفاهية، لكنه لم يغتنمها. عجزت الدولة عن تعبئة مواردها، وهيمن عليها تحالف المال والفساد، في ظل ما سماه الدكتور جلال أمين "الدولة الرخوة"، ما عرقل التنمية ومنع ثمارها أن تتساقط على الجميع بعدالة. ولا يزال الاقتصاد المصري يعاني إشكاليات حقيقية، لا تزال قضايا دور الدولة والقطاع الخاص والديون وغياب التوازن بين القطاعات الإنتاجية والقدرة على التشغيل تبحث عن الحسم، برغم ضجيج التصريحات الرنانة.

تظل الصناعة أمل مصر - وكل دولة عربية - لتغيير واقعها؛ الصناعة عصب التنمية وبوابة الإصلاح الشامل، وضمانة العقد الاجتماعي الذي يرجوه المجتمع، توجِد الوظائف وتقلل البطالة، وتفتح المجال للعقول الماهرة لإخراج ما لديها من طاقات؛ فلا تَقدُّم للمجتمع أو قوة للدولة، دون نهضة، ولا نهضة دون تنمية، ولا تنمية دون تحديث الصناعة، ولن تتقدم الصناعة دون أن تكسر قيودها في مناخ ملائم محفز.

خلال السنوات التسع الماضية، أنجزت مصر مشروعات ضخمة، في البنية التحتية، بيد أن الخلل الظاهر في ترتيب الأولويات وتداعيات كورونا والحرب في أوكرانيا وغزة، وما صاحب ذلك كله من تضخم وارتفاع الأسعار وقصور سلاسل الإمداد، تفرض تنويع مجالات الاستثمار وإعطاء أولوية مطلقة للصناعة والزراعة.

ولعل أولى الخطوات للخروج من الدائرة المغلقة للتقدم ثم التراجع، هي تحديد العناصر الأساسية في إطار عملية "تخطيط استراتيجي"، يساعد صانعي القرار في رسم خريطة طريق، بغية التحول إلى قوة صناعية، بمعنى استظهار عناصر القوة والضعف، والميزات التنافسية من كفاءات بشرية مدربة وموارد مالية وتقنيات متاحة والاستقرار السياسي والديموقراطية، وتقويم الفرص والمخاطر الداخلية والخارجية، بإيجاز صياغة مصفوفة استراتيجية، وآليات تنفيذ كفوءة، تتوافق مع الظروف القائمة والموارد الممكنة، لبناء اقتصاد لا ينزف ودفع عجلة الإنتاج، ومنح كل التسهيلات للمستثمر المحلي والأجنبي، في قطاعات صناعية لا تتجاوز عدد أصابع اليدين، ما دامت لا تشكل تهديداً لاستقلال الإرادة الوطنية، وأبرز القطاعات التي تحوز فيها مصر ميزة نسبية: صناعات الأغذية والأدوية والبتروكيماويات والسيارات والإلكترونيات. فلن تطور مصر اقتصاداً متقدماً لو اعتمدت على شراء مهارات الآخرين (سلعهم)، بدلاً من أن تتعلم صناعتها بنفسها. الأساس فى ذلك هو عدم تقليد الآخرين عشوائياً، إنما استنباط ما يلائم الاحتياجات الوطنية.

خيارات استراتيجية
إن تلك "الخيارات الاستراتيجية" المحسوبة بدقة تطلق الطاقات الكامنة فى المجتمع وفق رؤية كلية، بالتزامن مع تحديث البنية التحتية والخدمات والسياحة، والمساعي الحثيثة للخروج من الوادي إلى الصحراء الشرقية والغربية ومحور القناة وسيناء والساحل الشمالي، مع إيلاء اهتمام أكبر بتطوير القطاع الزراعي أفقياً ورأسياً، باستخدام أحدث السلالات والأبحاث العلمية والوسائل التكنولوجية، إلخ... وحتى يتاح لمصر القدرة على أن تكون لاعباً تنافسياً، يقتنص الفرص في السوق العالمية، ينبغي رفع معدلات الاستثمار إلى 30% سنوياً، وبناء قاعدة صناعية متطورة وتوطين التكنولوجيا، بشكل حقيقي، لا مظهري، حتى لو قدمت القاهرة تسهيلات للرأسمالية العالمية، مثل الأراضي وأسعار الطاقة التفضيلية؛ لاستنبات الصناعات المبنية على التكنولوجيا المتقدمة والمنتجة لها، مع خفض التكلفة وتعزيز القدرة التنافسية للمنتجات. ففي كل البلدان التي نجحت تجاربها التنموية، كان التصنيع آلية إنجاز الأهداف، والأهم تغيير "الفريق الاقتصادي" الحالي والاعتماد على "فريق كفاءات" بصلاحيات حقيقية، مثلما طالب الدكتور أحمد جلال وزير المالية السابق.

إن المنافسة الجيوسياسية الحادة بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين من جانب وروسيا والصين من جانب آخر، مثلما يحدث في أوكرانيا، تعرض الاقتصادات العربية لاحتمالات غير مواتية، يرتبط الإفلات من هزاتها، أو تحييد تأثيراتها على الأقل، بنمط الإنتاج الذي يمكن أن تسلكه البلدان العربية، ومن بينها مصر في إطار نظام عالمي متقلب، وهي المثقلة بالأعباء، في ظل ثورة المعلوماتية واقتصاديات المعرفة والتكتلات الكبرى والمنافسة الدولية؛ فلا بقاء إلا للأصلح، من حيث التميز إنتاجاً وجودة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات