عن جيل الوجع والرحيل!


جراسا -

أن تبدأ يومك بلقاءات وتقارير عن الوضع الصعب، وتختتمه بسماع شعر عن الوجع والرحيل، فذلك دليل على حالة لا توصف من الألم والعبث وأقرب إلى اختبار المؤمن منها لواقع طبيعي.

التقرير الدولي الذي يحمل عنوان "المستقبل، بصيص الأمل في الظلام"، يتحدث عن واقع اليمن بالذات، يستخدم طُرقاً مبتكرة لجمع البيانات وبالتالي توفير تحليل شامل للوضع الاقتصادي الحالي، أنا لا أحب التقارير الدولية وأنفر من لغة الأرقام التي تصيبني بدوار البر والبحر، ولكن شدّني العنوان الشاعري أكثر من حديث الخبيرة الدولية، وهي تقول عن "بصيص الأمل" في الظلام!،ثم تكمل عن سوداوية الواقع، حيث أدّى النزاع إلى إتلاف أو تدمير أكثر من ثلث المنازل والمدارس والمستشفيات ومرافق المياه والصرف الصحي في البلاد.
وعلى الرغم من هذه التحدّيات، هناك بصيص أمل مهمّ.

يشير تحليل الاقتصاد السياسي المتعمّق للتقرير إلى جانب تحليلات البيانات المبتكرة، إلى أنّ اللامركزية الواقعية في اليمن يمكن أن تساعد في دعم نموها المستقبلي.

أترك التقرير وحديث الخبراء لأمسية الشعر الشابة عن اللاجئين وضحايا الحروب، فأنا أحب الشعر كما أكره السياسة! وقد تركت الأول وأدركتني حرفة الأخرى ذات لحظة غواية غريبة!.

ودوماً أعود إلى حديث الشعراء بحجة أني من الغاويين لا أكثر وتأسرني قصيدة تقول:
"لا أحد يترك وطنه إذا لم يكن قد أصبح فك سمكة قرش".
وهو مقطع صار شهيراً من قصيدة أصبحت منذ بضعة شهور رمزاً للاجئين في كل مكان، لشاعرة شابة بريطانية من أصول صومالية، هي ورسان شاير .

القصيدة جميلة وقرأتها ضمن باقة من الشعر عن حالة اللجوء، لكن القضية مؤلمة، فهذا الأرق لا يفارقك وأنت تتذكّر الوطن الجميل الذي لم يعد غير ذاكرة متخيّلة.
تستمع لقصص وروايات عن أهوال اللجوء وترك الوطن، ولا يفوقها ألماً إلاّ أحاديث الحرب ومن يعيش فيها.
هذه الحرب التي لم تدمّر الشجر والحجر فقط، ولكنها تقتل في المرء أجمل ما فيه، وتنتج كائنات تدمّر القيم والنيل من الحلم الجميل.

خلال عقد كامل وجدنا أنفسنا في منطقة الشرق الأوسط عالقين في فك سمكة قرش يسمّيها الشعراء وطناً، نفرّ من مدن وهي تلاحقنا، بل وتسبقنا في الرحيل، وكما قالت الشابة الصومالية التي غدت أيقونة بريطانية في قصيدتها تلك:
"تركض نحو الحدود،
فقط،...
حين ترى المدينة بأكملها تفعل".

تلك مخيّلة الشاعر، أما الواقع فأصعب، فنحن في بلدان تصفها ذاكرة الحكائين بجنة الله على أرضه، وهي بؤرة التوتر والحروب الدامية، وإن كانت هذه المشاهد ما هي إلاّ تتمة لعقود من التيه والفشل الذي صاحب أجيالنا، وهذا الصراع الدولي المحتدم حول جغرافيا وجدت نفسها في عين عاصفة الأطماع، ربما هي لعنة المكان لا عبقريته، والتدهور الذي يحيط بجيل تلو آخر مردّه إلى سوء التدبير لا لعنة الحظ!.

ويقول الشاب العشريني، إنّه من جيل رأى أهوالاً لم يرها الآباء، وكأني به يتّهم جيلنا وأنا اتحسس بعض شيب على مفرق رأسي، وخشيت أن أسمع أننا والآباء جيل عاش تخمة الوقت ووفرة في كسل غير طبيعي، حديث اتهام أحسست معه بأني عشت في بلدان أقرب ما تكون إلى محميات لزواحف تنقرض لا كفرد من شعب قتلته التجارب والصراعات.

كيف لي أن اشرح لشاب نجا من هول المحيط، أننا نحن من يلوّح بمناديل الوداع في الشط الآخر، الشط المليء بجثث لم يسعفها الوقت لتكتب قصيدة عن مدن لم تركض هاربة حتى أدركها التعب قبل أهلها؟.

وكيف تشاركه وجع قصيدته عن جيل شرّدته الحرب في أرصفة الدنيا، وأننا جيل لم تغادره أرصفة الوجع حتى يفرّ إلى أرصفة النجاة، جيل مرّ بخمسة عقود من آثار النكسة، إلى حروب السلام وانتفاضات الجوع، وحتى ربيع غضب شتّت ما تبقّى من الشمل!

وليس كما قال الشاعر المهاجر إنّ
"الوطن حيث هرعت باتجاه البحر
لأنّ المكان الذي تنتمي إليه
لم يعد يتذكّر اسمك"

ذاك ليس حقيقياً بل بعض شعر جميل، فقد عدت مثلاً إلى الوطن من أيام ووجدت أيها الشاب، أنّ الحجر في الوطن المتعب بالحرب ينطق بأسمائنا، وكأنّ الصخر هو ما قُدّ من ملامحنا لا العكس.

فكل شيء يمرّ، ولكن ليس كل شيء يُنسى، وكثير من الإنكسارات التي مُنينا بها كانت بسبب أعاصير الواقع الصعب وتحدّيات أكبر منا، وليس لقلّة حيلة أو ضعف فينا، فلم يكن الغصن هزيلاً، بل كانت الريح قوية كما نقول.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات