دستورية قانون منع الجرائم


أصدرت المحكمة الدستورية قبل أيام حكمها في الطعن المقدم إليها بعدم دستورية قانون منع الجرائم رقم (8) لسنة 1952، حيث تنبع أهمية هذا القرار في أنه وضع حدا للخلافات القانونية والسياسية التي امتدت لعقود من الزمن حول مدى توافق صلاحيات الحكام الإداريين في التوقيف مع أحكام الدستور، والتي اعتبرتها المحكمة الدستورية بأنها "تخلو من أي شبهة دستورية ولا تخرق حرمة النص الدستوري أو تتجاوز حدوده".
ومن خلال استعراض حيثيات القرار الدستوري الذي يتمتع بصفة الإلزامية في مواجهة جميع السلطات والكافة، نجد بأن المحكمة الدستورية قد أعادت التأكيد على جملة من المبادئ الأساسية في مجال القضاء الدستوري، أهمها قرينة دستورية النص القانوني، وبأن الرقابة الدستورية ترتبط بمدى توافق التشريع المطعون به مع أحكام الدستور.
كما استندت المحكمة الدستورية في ردها على أسباب الطعن بعدم الدستورية على أن القرار الذي يتخذه الحاكم الإداري بالتوقيف يعد قرارا إداريا بطبيعته يخضع لرقابة القضاء الإداري إلغاء وتعويضا، وبأن القانون قد أجاز لوزير الداخلية فرض رقابته على صحة وسلامة قرارات الحكام الإداريين، وذلك ضمن إطار سلطته الرئاسية عليهم.
ومن الحجج الأخرى التي كان يمكن الاستناد إليها لتبرير المشروعية الدستورية لقانون منع الجرائم أن المادتين (8) و(9) من الدستور المتعلقتين بحريتي التنقل وعدم جواز توقيف الفرد أو تقييد حريته، قد جرى إحالة تنظيمهما إلى نصوص القانون. فهما كباقي الحقوق الدستورية الأخرى لا تتمتعان بصفة الإطلاق، وإنما تخضعان للتقييد من خلال السلطة التقديرية المقررة للمشرع الوطني، شريطة ألا تنال النصوص القانونية الصادرة من جوهر هذه الحقوق أو تُقوّض أساسياتها.
ويبقى اللافت للنظر في القرار الأخير أن المحكمة الدستورية قد أنكرت على نفسها الرقابة على التطبيق العملي للقانون أو على السياسة التشريعية، مكتفية بالإشارة إلى أن "سوء تطبيق نصوص القانون أو الخطأ في تفسيرها أو تأويلها – بفرض وقوعه – لا يوقعها في نطاق عدم الدستورية إذا كانت صحيحة في ذاتها".
إن هذا التوجه القضائي للمحكمة الدستورية في قصر نطاق رقابتها على جوهر النصوص القانونية في مواجهة الأحكام الدستورية يأتي متوافقا مع النهج الذي خطته المحكمة الدستورية العليا المصرية لنفسها، والقائم على أساس عدم الرقابة على الملاءمة أو السياسة التشريعية، والتركيز فقط على رقابة الدستورية.
ففي حكمها الصادر في الدعوى رقم (5) لسنة (7) قضائية "دستورية" لعام 1978 قضت المحكمة المصرية بالقول إن "إصدار القانون هو من الملاءمات المتروكة للمشرع، ولئن كانت المحكمة لا تختص وهي بصدد مزاولة الرقابة القضائية على دستورية القوانين بالنظر في ملاءمة إصدار التشريع من عدمه، إلا أنها تختص ببيان مدى مطابقة أحكامه للدستور، دون التعرض لملاءمة إصداره أو تناقش أو تخوض في ملاءمة تطبيقه".
وفي قرارها الصادر في الدعوى رقم (28) لسنة (2) قضائية "دستورية" لعام 1985، اعتبرت المحكمة الدستورية العليا المصرية أن "تقدير الضرورة الداعية لإصدار القرارات بقوانين متروك لرئيس الجمهورية تحت رقابة مجلس الشعب باعتبار ذلك من عناصر السياسة التشريعية التي لا تمتد إليها الرقابة الدستورية".
في المقابل، فقد سبق للمحكمة الدستورية الأردنية في قرارها رقم (1) لسنة 2013 الخاص بعدم دستورية اعتماد أجر المثل في قانون المالكين والمستأجرين وقطعية الحكم الصادر بحقه، أن كانت أكثر توجيها للمشرع الأردني فيما يخص تطبيق النصوص القانونية. فأرسلت له رسائل واضحة ومباشرة تدعوه إلى مراجعة قانون المالكين والمستأجرين، و"اعتماد أي طريقة أخرى لتقدير الأجر العادل حسب ما يراه متلائما مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة عند اعتماد أية وسيلة أخرى لمثل هذا التقدير".
ومع ذلك، فإن الإشارات الضمنية التي أرسلتها المحكمة الدستورية حول احتمالية وجود "خطأ في تفسير نصوص قانون منع الجرائم أو في تأويلها، أو في الصورة التي يفهمها القائمون على تنفيذها" يجب أن يلتقطها المشرع الأردني، بحيث يُخضع هذا القانون لمراجعة تشريعية تخرج عن إطار سلطة الحاكم الإداري في التوقيف، والتي اعتبرتها المحكمة الدستورية من قبيل الحفاظ على الأمن العام والسلم المجتمعي، إلى توضيح الحالات التي يحق فيها للحاكم الإداري التوقيف، وذلك لتجنب أي خطأ عند التطبيق أو في التفسير والتأويل.
كما يمكن التفكير في زيادة الضمانات القانونية المقررة لحرية التنقل، لتشمل إلى جانب قابلية القرار الصادر بالتوقيف للطعن، أن يتم تحديد مدة زمنية معينة للتوقيف الإداري لا يمكن تجاوزها، وذلك أسوة بالمدد الخاصة بالتوقيف القضائي في الجنايات والجنح والواردة في قانون أصول المحاكمات الجزائية.

* أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية
laith@lawyer.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات