هل نحتاج للسرعة في تطوير الحياة السياسية


الديمقراطية بحد ذاتها ليست مهمة كغاية، فهي لا تعدو أن تكون وسيلة فيها حد مختلف على جدواه من أدوات الرقابة وتوازنها ونجاعتها. لكنها من أفضل الوسائل المتاحة اليوم للحكم. فإن طبقت بشكل سليم ومتدرج وعقلاني، يمكن أن توفر تداول سلمي للسلطة ورقابة شعبية على أداء الحكومة ونتائج عملها، مما يقود إلى تجويد عمل الحكومات وينعكس على حياة المواطنين على شكل فرص عمل ورعاية صحية وتعليمية وخدمات بجودة عالية وغيرها من إحتياجات المواطنين.
في سيناريو الديمقراطية فإن الفرضية (بأحد أشكلها المبسطه) تبنى على تصور أن المرشحين للإنتخابات النيابية يترشحون بناءا على برامج عمل جمعية (من خلال أحزاب أو تكتلات سياسية) تهدف في نهاية المطاف إلى تحقيق رفاه المواطنين فيما يحتاجونه من مناحى حياتية أساسية مختلفة وفي مسيرة الدولة وتقدمها. وتتنافس الأحزاب والتكتلات السياسية فيما بيها على هذه الأسس. فإن فاز حزب في أغلبية مقاعد البرلمان فإن هذا يعني أن برنامج الحزب أو مصداقيته وافقت عدد أكبر من المواطنين، فيكلف الحزب بتشكيل الحكومة. ويمكن أن لا يفوز أيا من الأحزاب بأغلبية مقاعد البرلمان، ففي هذه الحالة تشكل الحكومة من إتلاف أحزاب قادرة على الحصول على ثقة مجلس النواب. وبمجرد تشكيل الحكومة، تبداء بالعمل على أساس البرامج التي إختارها الشعب لتنفيذها، وتكون حريصة عل تحقيق برامجها التي تعهدت بها للمواطنين وعلى إستمرار التواصل مع المواطنين لشرح ما تقوم به كونها ستتعرض للتقييم الشعبي في الإنتخابات القادمة، فإن تم إنتخاب الحزب الحاكم أو أحزاب الإئتلاف الحاكم فإن هذا يعني رضا المواطنين عن أدائهم و نتائجهم ومسيرتهم ويستمروا في الحكم. وإن لم يتم إنتخابهم وتم إنتخاب حزب أو أحزاب أخرى فهذا يعني عدم رضى المواطنين عن برامج أو أداء أو مسيرة الحكومة وقبولهم ببرامج بديلة لأحزاب أخرى. على أنه في هذه الفرضيات، فإن الأحزاب التي لا تنجح في الحصول على أغلبية، تصبح أحزاب معارضة تعارض الحكومة الحزبية القائمة وتشرح للمواطنين مواطن القصور في عمل الحكومة. وهكذا يكون هناك تنافس سياسي برامجي قوامه تحقيق الأفضل للمواطن، وهذا هو الوضع المثالي في الحكم.
هذا السيناريو الديمقراطي المبسط يرسم صورة وردية جميلة، فهل هكذا هي الديمقراطية دائماً؟ وهل من مخاطر في مثل هذا البناء الجميل؟
كما في كل تصور وبناء نظري يمكن للنظرية أن تنجح في التطبيق ويمكن أن تفشل. فقد تم إنتخاب الحزب الفاشي في إيطاليا في عام 1924 ليقوم رئيسه بنيتو موسوليني بتحويل نظام الحكم الديمقراطي إلى نظام قمعي شمولي، كما أن حزب العمال القومي الإشتراكي الألماني وصل إلى السلطة بشكل ديمقراطي ومن خلال الإنتخاب في عام 1933 ليقوم رئيسه أدولف هتلر بتحويل نظام الحكم الديمقراطي إلى نظام دموي دكتاتوري. أما في التجارب المعاصرة غير المتطرفة، فقد تم إنتخاب الرئيس بيدرو كاستيلو في شهر 7 من هذا العام رئيساً لدولة بيرو، وهو يساري شعبوي متطرف وعديم الخبرة، وقد تم إنتخابه على أسس ديمقراطية، لنرى وخلال أشهر قليلة إنخفاضاً يومياً في قيمة العملة وإزدياد في التضخم ومغادرة للإستثمار.
لكن تجارب التحول الديمقراطي ليست بالضرورة سلبية، فقد رأينا نجاحات هامة للديمقراطية في بريطانيا وغيرها من دول العالم. إذاً، فالتحول الديمقراطي قد يقود إلى رفاه الشعوب وتقدم الدول وقد يقودها إلى حتفها، فكيف نصل إلى تحول ديمقراطي يقودنا إلى الرفاه ويتجنب مخاطر ما حصل مع غيرنا من الدول؟
بداية لا بد لنا من الإطلاع على تجارب غيرنا ونجاحاتهم وإخفاقاتهم لا لنقلها حرفياً بالضرورة ولكن حتى نتعلم منها، مع إدراكنا للفوارق بيننا وبين الأخرين. فليس من اليسير القياس على الديمقراطيات الناجزة والعمل على أن نصل اليوم إلى ما وصلت له اليوم، فقد مرت دول مثل بريطانيا وفرنسا وغيرهما بعقود من التغير التدريجي والبناء المتراكم حول الديمقراطيه، لتصل إلى ممارسة يومية بأدبيات وقواعد إشتباك واضحة لدى المؤسسات البيرقراطية والأمنية واللاعبين السياسيين من أحزاب وأشخاص وحتى مواطنين، كفلت بما وصلت له اليوم حماية الديمقراطية من الشطط والغلو مع الحفاظ على مساحات كبيرة للحركة والإجتهاد، وهذا لم يحصل بين ليلة وضحاها.
وفي أمريكيا، فقد كان وصول رئيس متطرف إلى السلطة أحدى هواجس واضعي الدستور الأمريكي، ووضعو للتأمين ضد مثل هذه الأحوال نظام (Electoral College) الذي يمنح أشخاص معدودين حق تقرير إنتخاب الرئيس الأمريكي من عدمه بالرغم من إرادة الناخبين وحصيلة تصويت الناخبين.
إن تطوير الحياة السياسية للوصول إلى الديمقراطية الناجزة كمقصد نهائي لنهج إدارة الحكومات أمر يصبو إليه الكثير منا، لكنه محفوف بالمخاطر إن لم يسر بالطريق الصحيح. فالسير بخطى بطيئة مدروسة على مسار واضح المعالم قابل للتقيم والتصويب والتعديل كلما بان فيه عوار خير من أن نقفز مرة واحدة في الهواء لنقوم بإستدارة كاملة وردة سريعه عن التحول الديمقراطي عندما تدلهم الخطوب في أول منحنى قاسى، كما حصل في التحول الديمقراطي لدى غيرنا من أبناء لسان الضاد خلال الأشهر الماضية.
هذا كله يقودنا إلى القول بضرورة المضي بتطوير الحياه السياسية، لكنه يقودنا إلى ضرورة تطويرها لكن بروية وبطريق مدروس وبضمانات مرحلية واضحة شريطة أن لا تصبح هذه الضمانات قيوداً تحول عملياً دون الوصول إلى الديمقراطية.




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات