دولة الرئيس .. يضيقُ الجلدُ عن نفسي


لأجلِ الوطنِ بلعنا مطعومَ البقاءِ على وسائدنا في البيوتِ لفترةٍ طويلة لا تقلُّ عن ثلاثة أشهر ، يومَ طلّ علينا وباء "كورونا" مُشهِراً سَيفهُ ، يدكُّ بلادَ العالمِ دكّا ، كأنّهُ شَمطاءُ جزّت شعرها وتنكّرت ..
لأجلِ الوطنِ خبّأنا مَرارة الخوفِ والقلق والألم التي شربناها في كؤوسِ الهمِّ والحَيرة والنّدب ، وحَبسنا أنفاسنا في سراديب الحارات ومزاريب البيوت المسترخية على فراشِ المواجع والمضاجع والعناء ..
لأجلِ الوطن كَبتنا ابتساماتِ أطفالنا وفرحتهم وحَجَرنا على نداءاتِهم الصّاخبة وشقاوتهم الجميلة ، حَرمناهم من فرحتهم بقبلاتِنا التائهة ، ونشوتهم لامتطاء أكتافنا المتعبة ..
لأجلِ الوطن ضاقَت علينا جُلودنا بما رَحُبَت بينَ يومٍ وليلة ، وطمَسنا من يومياتنا صَخبَ الأسواق وزُخرُفِها ، ووقفنا وِقفة المُحارب نحميها من تجاوزات العابرين بين أحلامنا وأمننا وسلامتنا ..
لأجلِ الوطن نَقشنا لقمة الخُبز على جداراتنا ، وطَحنّا أضلُعَ الحِرمان دقيقاً لنا ، وبِتنا نُغنّي في الحنين والشّجن للرّغيف الذي كان يَطلعُ كالشّمسِ مع صباحاتِ أمهاتنا ..
لأجلِ الوطن سَلبنا زَهوَ أبنائنا ، وأطفأنا قناديلَ الدّفاترِ الباكية في حقائبِهم ، وجدّفنا بهم في بحــارِ منصّاتِ التعليم ومضائقه ، حتى باتَ مستقبلهم يجري زاحفاً وراءَ هواتفهم ، وهُم في غفلةٍ عمّا يعملون ..
لأجلِ الوطن التقطنا ما التقطنا من حرارة العيش ، وقدّمنا كل التنازلات الممكنة ليبقى الوطنُ بهياً خالياً من كل سَقَمٍ ، وتبقى ديارَنا محميّةً مُصانة من رائحة "كورونا" وويلاتها وشَهقاتها ودَفقاتِها ..
لأجلِ الوطن لَم نُلقِ بالاً لراتبٍ ولا حَفنَةِ مال ، وعَلونا بأنفسنا وصَبرنا على ضَنك الحياةِ ومجازر الجُيوب ، وجَلَدنا حالنا بطوابيرِ الخُبزِ وأسواطِ الدواء ، وآثرنا أن نظلَّ جميعاً في طابورٍ واحدٍ هو "طابور الوطن" ؛ فَماتَ مَنْ ماتَ منّا ، وارتعبَ من ارتعب ، ونحنُ نُقاسِمُ أبناءنا التَّردّي وسوء الحال ..
لأجلِ الوطن صِرنا كالأنعامِ بل أظلّ سبيلاً ، قاصِرين عاجزين راضينَ قانعين ، على غنائكم نَسيرُ ونمشي ، وعلى حُدائكم نُقصر الخَطو والتجوال ، حتى تَرانا قد خَلَتْ شوارعنا من كل شيء إلا بقايانا ..
كُلُّ هذا يا دولة الرئيس ، لأنّ الوطنَ لا يُولدُ إلا مرّةً واحدة ، وأنّ الحياة بلا وطنٍ آمنٍ سالمٍ مُعافىً لا معنى لها على خريطة الوجود الإنساني ؛ فتكاتف الأجهزة المعنية والتحام الشّعب معها واستجابته كانت فارقاً بارزاً ، وشَكّلت جداراً مادياً ومعنوياً قوياً ضد هذا الوباء فقهرته وأماتته في لحده ، مهما كانت التضحيات والتكاليف.
كل هذا حينما شدّت الحكومة واشتدّت ، وأخذت الأمر على محمل الجد والجدية ، فسَخّرت كل السبل الممكنة لتكون دروعاً بشرية ومادية لمكافحة "كورونا" خلال الشهور الثلاثة الأولى من زيارته ، حتى اضمحلّ وغاب ، لتعودَ الحياة الى سابق عهدها.
اليومُ اختلفَ الحال وتبدّلت الأحوال ، بعد أن تربّع الوباء في حضن الوطن من جديد ، وتفشّت حالات الإصابة بشكلٍ خطيرٍ لا يُنبيء بخير ، وارتفعت حالات الإصابة بشكلٍ غير مسبوق ولا معهود ، حتى اتسعت رقعتها وامتدت الى مناطق عديدة وجديدة ، لتغطي بذلك كامل أرجاء الوطن.
أينَكم يا دولة الرئيس؟ وأين إجراءات حكومتكم اليوم؟ تلك الحكومة التي عملت على قدمٍ وساق فيما مَضى ، وبذلت قصارى جهودها في منع امتداد وانتشار الوباء بالوقاية والعلاج وسبل السلامة الواجب اتباعها من قبل المواطن.
ما الذي يجري اليوم يا دولة الرئيس؟ هل تباطأت جهودكم وتراجعت عزائمكم؟ أم أسلَمت لبطون الريح خيمتها ، وراحت تَجرُّ أذيالَ الخيبة؟ أم أنّها لا زالت تُراهن على المواطن ، لتُلقي عليه عبء اللوم؟
لم يرَ المواطنُ إجراءاتٍ حازمة هذه المرة ، ويُفاجأ كثيراً بوقوف الحكومة موقف المتفرّج ، ويُدمي قلبه أنّ الحكومة تكافئه اليوم بعدم الالتفات واللامبالاة ، أو باتخاذ حلولٍ آنيةٍ مؤقّتة ليست بذات الفاعلية المطلوبة ، لدرجة أنّ المواطن أصبح يخشى من كل شيء ، وهذا ما يُسمّى بالموت البطيء ؛ فماذا تساوي حياة الشّعب في أبجديات حكومتكم سيدي الرئيس؟
عُذراً يا دولة الرئيس ، فأنت المسؤول الأولُ أمام ما يحدثُ من تحدياتٍ وزحفٍ خطير للوباء يهدد حياة المواطن.





تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات