أنجيلا ميركل أم اللاجئين الزاهدة الرحيمة


أول امرأة تولت منصب مستشار ألمانيا بعد نهاية الحرب الباردة منذ العام 2005 أربع فترات متتالية بعدما ظل المكان حكرا على الرجال عهدا طويل من الزمن تعد ميركل من أكثر السياسيين المؤثرين في أوروبا ذات مبدأ أنساني ثبت ونبيل لقبها الكثيرون ( ماما ميركل ) صاحبة شخصية قيادية وإصلاحية عظيمة كتبت اسمها في صفحات التاريخ بأحرف من ذهب ونور كيف لا وهي التي وثبت ببلادها على أكثر من صعيد وواجهت قوى التخلف والانقسام بالتحدي والعمل والانجاز ولم تتوقف عند الأطروحات والتنظير بل قرنت القول بالعمل وتبنت نهج البراغماتية السياسية وعزفت عن مداعبة المشاعر القومية او النزعات الإيديولوجية وصفها الألمان بالمرأة التي لا تقهر على عكس شخصيتها القوية فإنها تبدو متواضعة ولطيفة وودودة جدا وهي تحظى باحترام شعبي لافت داخل ألمانيا وخارجها لا سيما في الوطن العربي كزعيمة حقيقية للعالم الأوروبي المتحضر .

صنفتها مجلة فوربس الأمريكية أقوى امرأة في العالم نظرا لبقائها في الحكم مدة طويلة حيث جاءت بعد هيلموت كول المستشار الألماني السابق الذي قضى في منصبه 16سنة إضافة إلى نجاحها الاقتصادي الباهر وصمود ألمانيا أمام الأزمة الاقتصادية العالمية التي أصابت أغلب دول أوروبا بالركود وكادت أن تودي بأخرى إلى الإفلاس فيما وصفتها مجلة التايمز ب"شخصية العام" سنة 2014 وخصصت لها واحد من أهم أغلفة إعدادها بعنوان " مستشارة العالم الحر" وفي عام 2016 عادت " فوربيس" لتصنفها كأقوى امرأة في العالم بعد مضي 4 ولايات وهي على رأس الجهاز التنفيذي في ألمانيا .

تمتعت ميركل التي بلغت هذه السنة 64 عاما بصحة جيدة على مدار توليها منصبها العام وواصلت العمل حتى بعد عملية أُجريت في ركبتها عام 2011 كما تعرضت لحادث سقوط أثناء التزلج على الجليد عام 2014 ولم تتغيب ميركل عن مهام عملها لفترة طويلة في المناسبتين لكنها مؤخرا تعرضت مؤخرا وللمرة الثالثة خلال شهر لرعشات مفاجئة خلال استقبالات رسمية داخل البلاد حادثتين منفصلتين ومفاجئتين من الارتعاش والارتجاف في أقل من أسبوعين لم تستطيع فيهما التحكم بجسدها وشوهدت وهي تمسك بأصابعها متشابكة بقوة في محاولة منها لمنع الهزات وتحرك جسمها بالكامل إمام مرأى المشاهدين والصحفيين وقد وثّقتها كاميرات الإعلام الأولى كانت إثناء تنصيب الرئيس الالماني فرانك فالتر وزيرة العدل كريستين لامبرخت في قصر بيليفو والثانية خلال وقوفها تحت أشعة الشمس إلى جوار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لمشاهدة عرض عسكري في العاصمة الألمانية والثالثة خلال استقبالها رئيس الوزراء الفنلندي أنتي ريني ما أدى الى سريان موجة من المخاوف والتساؤلات في الأوساط السياسية وبين مواطنيها ومحبيها داخل وخارج ألمانيا حول خلفية حالتها الصحية وما اذا كانت تعاني بالفعل من مرض خطير أم لا إثر تعرضها للاهتزاز في الأماكن العامة وعلى الرغم من تصريح الناطق باسم الحكومة ستيفن سيبرت بأنه لا يوجد شيء يدعو للقلق وأن حالتها جيدة ومستقرة وكل شيء يسير كما كان مخططا له وان ما إصابتها كان نتيجة الجفاف والإرهاق حيث تعمل 16 ساعة يوميا وأكثر أجندتها صعبة ومعقدة وان ما أصابها في الأساس هو مسألة نفسية بحته في حين روجت بعض مصادر أجهزة المخابرات الغربية الاعتقاد بأن ميركل ربما تعاني من " مشكلة عصبية " وقد تكون مصابة بشلل الرعاش .

فتحت هذه السيدة العظيمة الحكيمة حدود بلادها أمام أكثر من مليون ونصف من اللاجئين من مختلف الجنسيات من منظور أنساني أولا ووطني ثانيا يتعلق بمصلَحة ألمانيا التي يحتاج اقتصادها القوي لأيدي عاملة شابة وكفؤة تزيد في قُوته وتنافسيته في ظِل تَراجع معدلات المواليد وازدياد أعداد المسِنين في المجتَمع الألماني فجاءها السوريين والعِراقيين والأفغان والأفارقة الناجين بأرواحهم مِن جَحيم الحروب الذين ركِبوا البحر وجازفوا بحياتِهم للوصول إلى ملاذ آمِن يوفِّر لهم الطمأنينة ولقمة عيشٍ مَغموسَة بالكَرامة والمستقبل الآمن دون تمييز وقد كانت على الدوم نصيرة للمسحوقين والمعذبين في الأرض ورحيمة بالضعفاء والفقراء حتى لقبت ( بأم اللاجئين ) والملاك الذي طهر وجه ألمانيا القبيح من الدنس والخوف والتمييز ولو لفترة قصيرة من الزمن .

ولا زال العالم يستذكر تصريحاتها الإنسانية والأخلاقية المنصفة وهي تقول " سنقبل كل مهاجر يحمل طفلا دون 6 سنوات وقالت كذلك في مجال دفاعها عن سياسة استقبال المهاجرين ( يجب ألا ننسى أن الأمر يتعلق ببشر جاؤوا إلينا مستغيثين وهذا يرتبط بالرسالة الإنسانية الأساسية لأوروبا وإذا ما أردنا الحفاظ على هذا الجوهر والاضطلاع بدور فيما يتعلق بهذه القيم فيجب على أوروبا ألا تدير ظهرها لأصحاب العوز والمعاناة ) وكان لها مواقف مشرفة اتجاه المسلمين في ألمانيا حيث تعهدت بحمايتهم واعتبرت الإسلام جزء من ألمانيا وطالبت علماء المسلمين بالعمل على توضيح الصورة الحقيقية لدينهم بأنه لا علاقة له بالإرهاب والعنف وأكدت بان ألمانيا يغلب عليها الطابع المسيحي ولكن هناك أربعة ملايين مسلم يعيشون فيها ويمارسون شعائرهم الدينية بحرية وهؤلاء المسلمون ودينهم الإسلامي ينتمون لألمانيا بشكل كامل وقد لعبت ميركل دورا كَبيرا في تَعزيزِ الاتحاد الأُوروبي وتَصليبِه وازدهارِ اقتصادِ بِلادِها وواجهت أزمات عدة كادت تقضي على مشروع الوحدة الأوروبية أبرزها الأزمة المالية الطاحنة في البرتغال واليونان حيث كان لها الدور الأبرز في رفض فرض إجراءات تقشفية قاسية على اليونان ولم تبخل عليهما بالدّعم لإنقاذِهما وشعوبِهما مِن الإفلاس عِندما ضَخت مئات المليارات في اقتصادهما .

تَسكن المستشارة الألمانية في شقة متواضِعة جِدا في برلين وتتسوق في سوبر ماركت مشهورٍ بأسعارِه المتدنية لشِراء الأجبان والبيض والخبز ولا تهتَم كثيرا بمظْهَرِها الخارجي ومتابعة آخر خطوط الموضة وتعرف في محيط عملها بأنها قليلة الكلام ولكنها تمطر مساعديها والمسؤولين في حكومتها بالرسائل النصية بشكل متواصل وكثيرا ما لوحظت وهي عاكفة على هاتفها النقال أثناء المؤتمرات واللقاءات الدولية وهي شغوفة جدا باستخدام التكنولوجيا المتطورة ونشطة على مواقع التواصل الاجتماعي .

ستَخسر ألمانيا كثيرا باعتزالِ السيدة ميركل ومغادرتها قِيادة حزبها وزعامتها ومن الصعب تَعويضها في المستَقبل المنظور وسيظَل مكانها خالِيا من شخصية مماثلة ربما لعقود قادمة حاربها اليمين العنصري الألماني الداعي للكَراهية بقوة وحرض ضِدها بسبب تعاطفها مع سِياساتِ الهِجرة ذاتَ الطَّابَع الإنساني التي تبنتها مما اثر على مكانة حزبها وقوته في الانتخابات الأخيرة ما دفعها إلى تحمل مسؤوليتها الأدبية والتنظيمية حين أعلنت استقالتها مِن رئاسة الحِزب الاتحادي الديمقراطي المسيحي وأعلنت أنها ستتنحى عن منصِب المستشارية مع انتهاء وِلايتها الحالية عام 2021 .

لن يَنسى المهاجِرون العَرب والمسلمون وكل أبناء العالم الثالث الذين رحبت بِهِم حكومة ميركل ضيوفًا أعزاء جميلَها عليهم ووقفتها الإنسانية إلى جانبِهم في محنَتهم والانحياز إلى معاناتِهم في مواجَهة اليمين العنصري المتطَرِف وقد اعتبروا اعتزالها يوما حزينا في تاريخهم وحياتهم .

بدأت ميركل مسيرتها العملية الاحترافية في مجال تخصصها في العلوم وحصلت على شهادة الدكتوراه في الفيزياء عام 1986 ولم تنخرط في الحياة السياسية إلا بعد سقوط جدار برلين عام 1989 وهي ابنة قس ولدت وعاشَت فَترةً مِن عمرِها خلف الستار الحديدي حيث تَعرِفت على حياة البؤس والحرمان وقهر المعاناة وتربتمنذ طفولتها على قيم التسامح والتعاطُف مع المحرومين والهاربين مِن الحروب ومناطق التوتر ومعايشة الناس بالتواضع والمحبة والإنسانية .

يا صاحب القلب الكبير والوجه النضير أمنياتنا الصادقة لك بالتوفيق الدائم والسلامة والشفاء العاجل .

mahdimubarak@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات