مغناطيس


أكثر المعارف دهشة لنا ونحن أطفال في بداية مراحل الدراسة ، وتكبر الدهشة عندما تنتشر برادة الحديد فوق قطعة الورق ويبدأ المدرس بتحريك قطعة المغناطيس أسفلها كي تبدأ برادة الحديد بالركض في مساحة الورقة يمينا وشمالا ، ونغادر المدرسة ونحن نحلم بقطعة مغناطيس كي نمارس بها القوة في التحكم بكل شيء في عالمنا الصغير ، نريد أن نرقص كل الكون على سطع حياتنا من خلال قطعة مغناطيس لم نجده بعد .

أحدنا عثر على تلك القطعة السحرية بعد أن قطع الشوارع والأزقة وسؤال العشرات " أين يوجد المغناطيس ؟ " ، وكانت القطعة في محول كهرباء قديم مستهلك ومنهك من عمله لسنوات ، وجاءنا في صباح اليوم التالي وهو يمسك بجيب بنطالة بكامل قبضة يده وهو يشير اليها " هي هنا .. وجدتها بالأمس " ، وطال الزمن حد الموت ما بين الحصة الأولى وزمن الفرصة المدرسية كي نجتمع حول جيب صديقنا ونراقب بكل شغف وتسأل وهو يخرج تلك القطعة من جيبة ويبدأ بالعمل .

ولكن صديقنا نسي أن يحضر برداة الحديد وعدنا أدراجنا خائبين يملأنا الفشل ، ورغم أنه حاول أن يمارس القوة المغناطيسية على كل قطع حديد المدرسة إلا أنها بقيت ثابته ومتماسكة، ونحن نريد أن نتحكم ببرادة الحديد ونرقصها على قطعة الورق التي هي عاملنا القابل للسيطرة عليه وليس عالم قطع الحديد الثابة في أبواب المدرسة ومواسير المقاعد ،

وبعد زمن بلغنا فيه الكهولة أو قريبا منها تقابلت مع صديقنا صاحب قطعة المغناطيس في زاوية مقهى عماني قديم ، وشربنا القهوة ودخنا السجائر واستذكرنا قطعة المغناطيس تلك وحلمنا بأن نسيطر على عالمنا الصغير بأحلامه والكبير بطموحاتنا ، وملأنا فضاء زاويتنا بقهقهات مرتفعة أفزع سكان المقهى الأخرين، ولكن صديقي أعلن وبقوة أنه عرف اللعبة منذ تلك الأيام التي بحثنا فيها عن برادة الحديد ولم نجدها في ساحات المدرسة وجيوبنا الصغير .

هي لعبة الكبار اليوم التي يطلق عليها قوى الشد العكسي لمغناطيسيات الوطن المتنفذة في جيوبه الصغيرة والكبيرة ، وهي مغناطيسات تشد الوطن الى سطح الورقة وتلعب به كما تشاء وترغب ، وهي في نفس الوقت عذرا لكل من فشل في خدمة وطنه من باب " قوى شد عكسي " ، وصديقي اليوم فهم تلك اللعبة وأصبح من هذه المغناطيسات التي تتحكم بوطن وضع على سطع ورقة بكل مكوناته ، وتبريره لأن يكون مغناطيس في قوى الشد العكسي تلك ؛ أنه أول من عثر على المغناطيس في حاويات القمامة من بين بقية طلاب فصلنا الدراسي واستمر بمحاولة فهم تلك العلاقة بين الشد والجذب والرقص معا ، ومارسها في كل تفاصيل حياته وعلاقاته وحققت له نتائج ممتازة مما جعله يشرعن لنفسه ولبقية مغناطسيات الوطن قواهم في الشد العكسي لكل شيء في هذا الوطن .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات