شيخ الكتّاب


أمسك أبي بيدي وسرنا معا قاصدين الشيخ في الكتّاب ، الذي لم يكن بيته بعيدا عن بيتنا ، وكنت لا أزال في سنّ ما قبل المدرسة ، و يجب عليّ ان أتعلّم الكتابة والقراءة وأن أحفظ القرآن الكريم عند الشيخ الذي ما أن دخل أبي الى منزله حتّى رحبّ به بكلمات مقتضبة ، وأمرني أن أجلس مع الطلبة على الحصيرة في وسط الغرفة المبنيّة من الطين . وضعت الحقيبة القماشيّة التي خاطتها أمّي لي خصيّصا وكان فيها قطعة خبز طابون وحبّة خيار مما كانت جدّتي تزرعه ، ودفتر وقلم رصاص . أقترب أبي من الشيخ الذي بقي جالسا على كرسيّ حديدي ولم يقف على رجليه وقال ، أريد لابني أن يتعلّم القراءة والكتابة وأن لا يمضي الصيف الاّ ويكون قد حفظ جزء عمّا ، وافعل ما شئت معه من أجل ذلك . أحسست بنظرات الشيخ اليّ وأنا أرتجف ولا أستطيع رفع عينّي ، لأني كنت قد سمعت عن قسوته ، ثمّ رفع عصا طويلة تصل الى قرب مدخل الغرفة وقال مخاطبا جميع الطلبة ومحذّرا ايّاهم ، أن الويل ثمّ الويل لمن لا يتقن القراءة ولا يحفظ القرآن . وبدأ بتعليمنا الاحرف الابجدية التي أتقنّاها بسرعة فائقة ، ربّما لانّ طريقته القاسية في التعليم أجبرتنا على ذلك .

ثمّ بدأ يعلّمنا الصلاة ويأمر أكبرنا أن يمثّل أمامنا حركاتها ، وأصبحنا نصلّي صلاة الظهر في الجامع الكبير ثمّ نعود الى الكتّاب ، ونحرص على أن نداوم على أداء كلّ الصلوات في أوقاتها ، وبدأ يعلّمنا تجويد القرآن وحفظ جزء عمّا ، واستطاع معظمنا أن يتمّ حفظه في زمن قصير ، ولم يسلم أحد منّا من رفع رجليه على كرسيّ ليضربه الشيخ بعصاه الطويلة اذا حضرنا الى الكتّاب ولم نحفظ السورة القرآنيّة المقررة ، أو لم ننسخ الأحرف العربيّة بالخط الرقعي التي تكون أحيانا مائة مرّة . وكان يساعده في رفع قدمي الطالب المذنب أكبر الطلاّب حجما ، والذي أحيانا بعد أن يتمّ مهمته في مساعدة الشيخ ، يضربه أيضا بالعصا الغليظة الطويلة لأنّه أخفق في حفظ سورة قرآن أو قصيدة في مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم .

لا أدري لماذا استغنى الناس عن شيخ الكتّاب ودروسه ، وحوّلوا أطفالهم الصغار للدراسة قي ما أسموه الروضة ، التي يتخرّج منها الاطفال وهم لا يحفظون كثيرا من سور القرآن الكريم ، ولا يتعلّمون المخارج الصحيحة للأحرف والتي كنّا نتعلّمها من القرآن أو من الشعر الجاهلي المقفّى ، جزل الكلمات عميق المعاني ، أو شعر أحمد شوقي الذي يعمّق العلاقة بين الطفل ولغته الأم ، لأنّ الطفل يتعلّم في سنواته الاولى لهجة عاميّة تختلف اختلافا كبيرا عن اللغة العربية الفصحى ، بعكس الطفل الغربي الذي لا تختلف اللهجة المحكيّة في البيت وفي الشارع عن اللغة التي يتم تدريسها في المدرسة أو ما قبلها ، مما يفقد الطالب العربي كثيرا من المهارات اللغويّة التي تكسبه تفوّقا في الدراسة والفهم والحفظ .

رحم الله شيخ الكتّاب الذي لم أكن أعلم أنّه مقعد ولا يستطيع أن يتحرّك ، الاّ في اليوم الذي طلب فيه منّي أن أدفع كرسيّه الذي صنعه له حدّاد المدينة ليصل الى السوق ، ولكنّي دائما أتذكّر عصاه الغليظة الطويلة التي كانت تصل الى باب الغرفة الخشبي وأعجب كيف أنّنا لم نكن نهرب منه . ومع أنّه لم يغيّر من أسلوبه في التعليم ولم يحدّث مناهجه ولم يغيّر جلسته على الكرسي ،الّا أنّه أحيانا كان يكافئنا ببعض الحلوى الملوّنة ، اذا نحن أحسنّا القراءة .

انّي الآن أشكره ، ولا بدّ أنّ الطلبة الذين تتلمذوا على يديه يشكرونه كذلك لأنّه جعلنا نكتب بخطّ جميل وبدون أخطاء املائيّة ونحفظ كثيرا من الشعر الذي يتغنّى بحبّ الوطن . وفي العطل الصيفيّة ، بعد أن التحقنا بالمدارس الحكوميّة ، كنّا نتسابق لندرس بين يديه القرآن واللغة العربيّة وبعض الحساب ، ولم يكن يهمنّا كثيرا اللغة الأجنبيّة ما دمنا نتقن لغتنا العربيّة التي نفاخر بها الدنيا .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات