عشّاق الوطن


وقف عاشق الوطن , كما كان يسمّي نفسه , أمام المرآة طويلا , يصلح من وضعيّة الربطة حول عنقه , تارة يسبل يديه , وتارة يشبّكها , ثمّ يمسّد على شاربيه , ويتحسس ذقنه المحلوق بعناية , حتّى لا يبقى أثر لشعرة واحدة بارزة فيه , يسوّي من القشاط الجلدي الذي بالكاد ينغلق على كرش بارز , ثمّ ينحني ناظرا الى حذاءه اللامع وبنطلونه المكوّي كحدّ السيف , ويتفقّد جهازه الخلوي بالطبطبة على جيبه الداخلي , يبتسم , ليرى انعكاس ابتسامته في المرآة , فاليوم حافل وطويل , سيزور بلدتهم فيه مسئول كبير , فبعد جولة له على مشاريع ستقام , وأبنية ستنشأ , يقام حفل فيه كلمات وأغاني وطنيّة , والحاجة هناك كبيرة لمن سيصفق بحرارة , ويهتف بصوت عال .

ركب المسئول الكبير , سيّارته الفارهة من أمام منزله الكبير , في عاصمة الدولة المحظيّة به وبأمثاله , يتبعها سيّارة أخرى فيها الحماية , وبعد ان انحنى له السائق والسكرتير , اللذان تلقيا تعليماته بتفّهم كبير , تهادت بهم السيّارة على طريق مستو , ما لبثت أن بدأت بالاهتزاز , بعد أن وصلت الطريق الصحراوي , وبّخ المسؤول السائق على قلّة درايته بالقيادة , فأجاب السائق بصوت خافت , انها الطريق يا سيدي , ثم أستدرك وحمّل نفسه المسؤوليّة , فالفرس من الفارس وقيادة السيّارة من السائق , حتّى لو كانت الطريق محفّرة , واستمرّوا برحلة عبر قرى بائسة كثيرة , كان المسئول يمط شفتيه اسفا على قلّة حيلة سكّانها وكسلهم .

وصلت السيّارتان الى الأرض التي سيقام عليها المشروع الكبير الذي سيشّغل اعدادا كبيرة من شباب البلدة الجالسين في بيوتهم من دون عمل , اللذين لا يتفهّمون جهد المسؤولين الكبار اللذين يبذلون قصارى جهدهم للبحث عن افكار سينفّذونها لخدمة أبناء المجتمع , وبدأ عاشق الوطن والمستقبلين يصفّقون بحرارة لمّا نزل المسئول الكبير من سيارته , بنظّارة سوداء لا يستطيع أحد من خلالها أن يرى لون عينيه , وضعوا له حجرا , تحته طين , مدّ يديه , حرّك الحجر قليلا في مكانه , صفّق الحضور كثيرا , وانطلقوا الى الاحتفال الكبير , تسلّم كل واحد منهم على باب القاعة , شالا بلون حطّة رؤوس رجال الوطن و أسدلوه على أعناقهم , ليستمعوا لكلمات تتغنّى بحب الوطن والحرص عليه , يتخللها تصفيق حاد وهتافات وطنيّه , ثمّ صعد المسؤول الكبير الى المنصّة ليدبك مع القرقة المحلّة على أنغام أغنية وطنيّة . .

قبل الغداء , زاحم عاشق الوطن الحاضرين , اللذين كانوا يستعدّون لالتقاط صورة جماعية , ليقف خلف راعي الحفل تماما , فهو سيضع الصورة في صفحته الشخصية, ليرى أصدقاءه , كم هو مهم , وبعد الغداء أقترب من المسئول الكبير , ليسلّم عليه , لكنه كان مشغولا بالحديث مع سكرتيره , فلم يعر اهتماما لليد الممدودة نحوه , وأخذ يسأل السكرتير , ان كان قد أتم تسجيل الأرض التي اشتراها له بالقرب من المشروع الكبير , الذي لم يرى النور لهذه اللحظة .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات