أردوغان و حلم دولته ا"لبائدة"


في الفترة الاخيرة بدأ موضوع تتار القرم يأخذ منحنياً خطيراً على مجمل العلاقات الثنائية بين روسيا وتركيا، ففي بيان الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في نهاية المؤتمر المؤتمر العالمي الثاني لتتار القرم قال - "... أن الأولوية القصوى لتركيا في ما يخص الأزمة الأوكرانية هي سلامة تتار القرم. فنحن لن تعترف أبداً بنتائج الاستفتاء في شبه جزيرة القرم، و إنه لن يتخلى أبداً عن أبناء جلدتهم من تتار القرم، مُشدِداً من جديد على عدم تخليه عن شعب تتار القرم".

التعامل التركي مع قضية تتار القرم مشابه تماماً لتعامله مع قضية الشراكسة. فتتار القرم الذين عانوا أيضاً من الإجراءات غير القانونية من السلطات السوفياتية - عندما تم ترحيل نحو 180 ألف شخص منهم في مايو 1944 من إقليم شبه جزيرة القرم وإرسالهم إلى آسيا الوسطى. و لهذا نستطيع الأن أن نفهم سر إشراف انقرة المباشر في كل عام على تنظيم وقفات إحتجاجية و مسيرات لتتار القرم لإحياء ذكرى ضحايا تلك الفترة، في خطوة يسعى منها الأتراك لخلق ورقة ضغط جديدة على موسكو، فالتتار والشركس يتقاسمون ذكرى و مصير تاريخي مماثل. لذلك دائماً ما تسعى أنقرة على اللعب على هذا الوتر الحساس سعياً لتوسيع نفوذها في البحر الأسود ومنطقة شمال القوقاز. و هدفها الأساسي هو إنشاء دولتين مستقلتين "شركيسيا العظمى" (في إقليم أديغيا، قراشيفو-شركيسيا، كاباردينو-بلكاريا، إقليم كراسنودار) و "خانية القرم" (في جمهورية القرم) لضمان التبعية السياسية والإقتصادية لها. و ذلك في محاولة منها لإعادة إحياء امجاد دولتها العثمانية البائدة.

“فالسلطان أردوغان”، هكذا يُلقّب رئيس تركيا الحالي من قِبل معارضيه، أو يراه فيها، ضمنيًا بعض مؤيديه، في إشارة تنسب أردوغان وسياساته إلى عهد الخلافة العثمانية، أو إلى استبداد السلاطين بالحكم.هذه النظرة التي ترى أردوغان إما مُخلِصاً من الإرث العلماني ومعيداً لأمجاد الخلافة، أو سلطانًا مستبداً يريد أن يُخضِع تركيا تحت حكمه وسلطانه، والمنطلقة من المواقف المختلفة تجاه دولة الخلافة العثمانية؛ قد تجاوزت، بطبيعة الحال؛ حدود الدولة التركية، لتصل إلى كل ما ضمته الدولة العثمانية فيما مضى تحت لوائها، من دول عربية وإسلامية، بل تجاوزت حدود الدولة العثمانية قديماً حتى وصلت إلى كل مَن يخشى سياسات أردوغان في المنطقة، وإمكانية بسط نفوذه عليه, أردوغان سعى لإشعال نار الإرهاب من جديد ليحقق حلمه الرئاسي وليكسب بالحرب ما خسره في صناديق الانتخابات.إن ما يحدث اليوم يقول إن تركيا سقطت في فخ الأطماع.. وللأسف كشفت التجربة السابقة أن أردوغان يمارس التكتيكات نفسها التي ترمي من ورائها إلى مكاسب ولو قليلة في إطار اللعبة التي يقامر عليها.

فموقع شبه جزيرة القرم الجغرافي يجلب بإستمرار إهتمام الدول العالمية المتنفذة ، فيما تحولت أراضي القرم مراراً الى ساحة معركة وميادين قتال. ففي منتصف القرن التاسع عشر تصادمت هناك مصالح الأمبراطورية الروسية و مصالح بريطانيا وفرنسا و الإمبراطورية العثمانية من الجهة الأخرى.

و لذلك تركيا تعمل بسرية و بنشاط على إنشاء منظمات و جمعيات بمسميات مختلفة على جزيرة القرم، الهدف المعلن عنها هو حقوق الإنسان ، و لكن هدفهم الأساسي هو فبركة قصص و أكاذيب بأن السلطات الروسية هناك تمارس سياسة التضييق و القمع ضد تتار القرم, من اجل إشعال نار الفتنة و تقويض السِلم المدني في شبه الجزيرة، و ايضاً لجمع الأموال اللازمة لتنفيذ مخططاتهم المختلفة في شبه جزيرة القرم، طبعاً كل هَذَا يتم تحت إشراف مباشر من الأجهزة الأمنية التركية و بغطاء مدني و اجتماعي.

المشكلة بأنّ من يشرف على هذه المشاريع هم نفسهم من يصبون الزيت على النار و يسعون دوماً لإشعال النزاعات العرقية على شبه الجزيرة و اقصد هنا السيد رفعت شوباروف رئيس مجلس الشورى للتتار القرم و السيد اصلان عمر كريملي المسؤول الأمني عن ملف جزيرة القرم و التتار في الحكومة الاوكرانية، هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالقوميين التتار، هم نفسهم مَنْ يقف وراء الحصار الاقتصادي على شبه الجزيرة و يمنعون دخول المواد الغذائية و الطبية لها من الجانب الاوكراني، فهم يحاولون الضغط و الانتقام من التتار الذين رفضوا المشاركة في تلك المخططات.
فها هو الناشط التتاري البارز رسلان بالباك، يقول : نحن لم نحقق ما نصّبوا إليه من إسترجاع لحقوقنا وممتلكاتنا في عهد أوكرانيا، ولا يمكننا مواجهة الواقع الجديد والسباحة ضد التيار، خاصة أن قوى إقليمية عديدة تريد استعمالنا من أجل مصالحها ضد روسيا وليس حباً فينا، أرى أنه من واجبنا التكيف مع الأمر الواقع، و يرى أيضاً أن مكتسبات التتار في ظل النظام الروسي تعززت، ولايكتفي في أغلب خرجاته الإعلامية من التذكير بأن روسيا فعلت لتتار القرم في فترة قصيرة ما لم تفعله أوكرانيا لهم منذ أكثر من عقدين.

و اخيراً، الغرب و تركيا يتعاملون مع الأزمة في جزيرة القرم بصورة تدعو للقلق ، لا سيما أن القضية تتجاوز القرم و التتار في حد ذاتها، فهي في الواقع مسألة نفوذ ومصالح كإحدى حلقات المنافسة في النظام العالمي ، وهذا التعقيد دفع الغرب لان يغلّب جانب التصعيد على جانب التهدئة والرصانة ، وبإستقراء التصريحات الصادرة من الدول الغربية بخصوص الأزمة يوضح أن هناك عددًا من المصطلحات التصعيدية تم اعتمادها كخطاب علني في وصف الأزمة ، منها على سبيل المثال توصيف ما تقوم به روسيا بأنه عدوان لن يمر بدون عواقب (وفقًا لما ذهب إليه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري)، والتلويح بالعزلة الدولية، واستخدام ورقة الضغط الاقتصادي على موسكو، وإنهاء عضويتها في مجموعة الثماني، فضلاً عن قيام عدد من الدول عدم حضور قمة مجموعة الثماني التي استضافتها روسيا هذا العام. فهاذا التصعيد المتعمد للأزمة يمكن ان يفضي إلى خيارات روسية ربما تكون أشد تطرفاً . فالتصعيد الروسي يضل مفهوماً في ظل الأهمية الإستراتيجية والاقتصادية والجغرافية الكبرى للقرم و أوكرانيا بالنسبة لها ، ولكن الذي قد يبدو غير مفهوم بصورة واضحة التصعيد الغربي في الأزمة الأوكرانية ، فمعادلة الصراع الأوكراني ليست صفرية ، والجميع من الممكن أن يصل إلى ترضية مناسبة ، فلماذا إذاً هذا التصعيد الغربي والأمريكي في ملف القرم ؟

تتذكرون التصرفات المماثلة التي حصلت في فترة الإعداد لدورة الألعاب الاولمبية الشتوية في سوتشي في عام 2014، عندما قام عدد ممن يسمون أنفسهم بالقوميين الشركس و بتحريض مباشر من من الولايات المتحدة و هيئات و مؤسسات تركية، بتنظيم إحتجاجات تدعو الدول الى مقاطعة هذا الحدث الرياضي، كون مدينة سوتشي كانت شاهدة على اعنف المعارك و ما تبعها من قتل و تهجير بحق الشراكسة، و من أسباب هذا التحريض أيضاً هو الرد على تصرفات روسيا فيما يتعلق بحليفة واشنطن في منطقة القوقاز - "جورجيا". كان الرد الروسي سريعاً و قاسياً، حيث فرضت قيوداً صارمة على قواعد الهجرة للعائدين من الشركس، و تم التضييق على الكثيرين من الشركس داخل روسيا، للأسف كل هذا كله جاء نتيجة المغامرة و التهور من قِبل أبناء جلدتنا في تركيا و أوروبا و الولايات المتحدة.

أعتقد انه يجب علينا أن ندرك بأن الإنقياد الأعمى للتدخلات الخارجية فيما يخص القضية الشركسية هو سبب ما نحن به الأن من إختلاف و تخبط، و يسهم بشكل كبير في تقسيم المجتمع وإثارة صراعات جديدة. و عندما نفهم بأننا نحن فقط من يقرر مصيره من دون اية إملاءات من احد، وقتها فقط سنجد من يسمعنا في روسيا.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات