العلمانيّة الأخطر


تحتاجُ الامّة العاقلة المُتعثّرة الى النأي بنفسها بعيداً عن ميدان الصراعات الأمميّة لتقنص وقتاً مهمّاً تستغله بعناية في تضميد جراحها وتسكين آلامها ولتأخذَ نفساً فكريّاً وأخر مادياً عميقين تنظر فيهما ملياً لترتب افكارها وتكشف اخطائها المزمنة في محاولة للبحث عن حلول فقد يمكّنها ذلك فيما بعد من اسْتجماع قواها والدّخول بخفّة الفارس الى عوالم الخير والشر...

لن يبقى مفهومُ العلمانيّة مُختصراً على معنى فصل السّلطة السياسيّة عن السّلطة الدينية و لم يَعُد ذلك الخطأ الاكبر الذي ترتكبه الأمم بعد أنْ أتّضح أنّ من تبنّت هذا الفكر قادرة على العودة ومجاراة متغيرات الحياة بكافة جوانبها وتأمين نفسها من عناوين العلم والتقدّم والرقي ما يكفي ليس لانْ تتنفس فقط بل وتنافس . ففي لقطاتٍ بانورامية على خط سير الامة الاسلاميّة نرى الفجوات المكانية الكبيرة من المشرق الى المغرب والمسافات الزمنية الطويلة بين العلم والجهل وهذا ما يتركنا حائرين في تفسير النص القرآني " ولكل أمّة أجل" . فإذا كانت الاية تتضمّن الامّة الاسلاميّة فيكون لزامًا عليها ان تحفظ ماء وجهها بأنْ تُعيد النّظر في مجمل ما وردها من تاريخ وتحافظ على ما تبقى من تراث تستمر به دورة حياة لأجيالٍ قادمة في محاربة الشر. ,وأمّا اذا كانت الاية لا تشمل الامّة فهذا يعني انّ ما حدث لها من انهيار كبير انّما مرحلة كونيّة لا تعني الانقراض الحضاريّ بقدر ما تترك لجانب الشر مجالا ليلتقط أنفاسه وهكذا هي حكمة الله, فالخالق الجاعل تعالى لم يُردها على الارض استخلاف ملائكي انما بشر يخطأون وفي صراع دائم مع عدوهم الوحيد ابليس الى ان يرث الله الأرض. و في كليهما نؤمن ان فئة ظاهرة على الحق ستبقى في الامة موضحة في المعنى القرآني "ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" ...

نعلم جميعاً انّ ثمة أعداء ماكرون درسوا بدقة أسس وروابط الامة وعاينوا نقاط الضعف والقوة فتربصوا لها جيداً , فهل يثير ذلك حفيظتنا لنفكّر في الكيفية التي تهاوت الامة وانحدرت الى هذا المستوى, وليدفعنا ذلك لنطرح السؤال المعهود هل كان السبب ابتعاد عن الدين ام انحراف عن الأخلاق ؟ وللسائل عن تضمين الاخلاق في السؤال نقول انّ الرسالة السماوية عندما اوكلت في بدايتها للعرب كانت لوجود الحاضنة الوحيدة لأية رسالة كانت يجب ان تكون مهداً لخاتمة الرسالات الا وهي مكارم الأخلاق والدليل على ذلك تزامن وجود أمم أقوى واعتى كان يمكن انْ توكل لها المهمة , وتفسير ذلك انّه عندما تكون لديك ايجابيات كثيرة لتجعلك قوياً فلن تكون لديك الفرصة أحيانا لتدرك تماماً اي منها الاولى بالتحصين للحفاظ على مستوى تقدمك إلا بعد فوات الاوان , ولكن عندما تكون لديك نقطة قوة واحدة فسَتُسخِّر لها كل طاقاتك وإمكانياتك لتبقيها قلعتك المنعزلة الحصينة المنيعة المترقبة...

كان أمام العدو المترصد خيارات , مهاجمة الدين أو مهاجمة الاخلاق او الاثنان معاً , عند العودة للنصوص القرآنية وهو بكل تأكيد ما فعله ذاك الماكر نجد ما يلي : لقد اثنى الله على رسوله ووصفه بالعظمة في جانبٍ يبعد شيئا عن مفهوم الوحدانية وهو قوله تعالى : "وانّك لعلى خلقٍ عظيم " , وهذا مدعاة للتفكر والتأمل جيداً في الحكمة من ذلك الثناء, وفي وصفه ايضاً " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم" وامّا الايات التي تحث على الالتزام بالخلق الحسن فهي عديدة نذكر منها : " ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" ," وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" ," لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ" ," فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك" ," لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم" , " وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" ," وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" ," إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ", " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ"." بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا".

في نصٍ عقلاني بحثت عنه يقول علماء الامة المتفكّرون :" انّ أبرز قواعد الإسلام هو ( ثبات القيم ) وبالتالي (ثبات الأخلاق) وإن الالتزام الخلقي هو قانون أساسي يمثل المحور الذي تدور حوله القيم الأخلاقية فإذا زالت فكرة الالتزام قُضي على جوهر الهدف الأخلاقيّ، ذلك انّه إذا انعدم الالتزام انعدمت المسؤوليّة وإذا انعدمت المسؤوليّة ضاع كل أمل في وضع الحق في نصابه والإسلام يحمل قواعد نظرية أخلاقية متكاملة تقود إلى الفضائل في أحسن ما تكون عليه، وهذا ينبع من غاية رسالة الإسلام التي هي رحمة للعالمين". من هنا جاء خبث العدو واختار مهاجمة الاثنان بخطة أسميتها علمانيّة الدين والاخلاق, لانه كان من المستحيل عليه مواجهة من يحمل راية الاخلاق والدين معاً والدليل يرويه تاريخ الامة....لقد كان لفصل الاخلاق عن الدين والاستفراد بهما كل على حدا من الاسباب الوجيهة لبداية الانهيار للأمة , وهذا ما يذكرني بقصة الاب والعِصيّ التي لم يستطع احدًا بمفرده انْ يكسرها ,لكنها منفردة كانت مهمة سهلة .

من خلال نظرة سريعة على عينة عشوائية من مجتمعنا , نبين فيها فئات المجتمع تبعا لعاملي الاخلاق والالتزام الديني بالأركان فتكون الفئات المؤثرة كما يلي : أصحاب الاخلاق الملتزمون(عينة نادرة) , أصحاب الاخلاق الغير ملتزمون, ضعاف الاخلاق الملتزمون , عديمو الاخلاق الغير ملتزمون :وحتى لا نُحدث تشوشاً على القارئ الكريم سنأخذ العينتان التاليتان , أصحاب الاخلاق الغير ملتزمون وضعاف الاخلاق الملتزمون. فالفئة الاولى أصبحوا يرون بل ويؤمنون بالنظريات والعناوين الغربيّة الدخيلة الحديثة كالقومية والديمقراطية والحزبية والوطنيّة ...الخ كمخرج للعودة الى خط سير الحضارة أمّا ضعاف الاخلاق الملتزمون فأصبحوا يتناحرون فيما بينهم على الامور العقائديّة وتفتتوا وتشتتوا الى ملل وأحزاب وطوائف وفي جدالات عقيمة لن تنتهي ما دام كل منهما يستند الى مراجع لم تحفظ ,من هنا نرى كيف انّ هناك لقاء مفقود بين الدين والاخلاق ,زمن اضمحلّت فيه المكارم وتعثّر الفكر الديني....وهذا ما اراده العدو ان يحدث خللاً وهوّة عظيمة بين كليهما يترك الامة عائمة فيها وفي مستنقع ضحل يصعب العوم فيه والخروج منه على المدى القريب ...

هنالك آراء كثيرة وعناوين اجتهاديّة تحث على العودة الى الدين ولكنّها لا تلمس موضع الالم , لان مفهوم الهداية الوارد في التنزيل الالهي عام وشامل ومع ان المسلمون حريصون على قراءته وتفسير اياته وتناول قصصه على مدى قرون الا انهم لم يستطيعوا ان يصلوا الى الجواب الضائع والا لما كان حال الامة ما هو عليه الان. هنالك العديد من الظواهر العامة التي نعاني منها ونتحاور حولها في جو من الذهول والصدمة , منها غياب احترام الصغير للكبير , عقوق الوالدين , الاحتكار , الغش , الكذب , تدني مستوى الحياء في الشارع , الخيانة والفساد بدءاً من الاسرة الى العمل الى المناصب العليا ,النفاق و الرياء , الخداع ,الغلاظة والقسوة, تبخيس الاراء والافكار وتهميش المبدعين والمفكرين , النميمة , العناد الاحمق , الحسد, البخل , اساءة الجوار , الانانية وستجد من هؤلاء من هو ملتزم بالأركان فما الذي يحدث !, ثم يأتي طارق يطرق الحديث عن حالة الغرب الاخلاقية وما تميّزوا به من الصدق, المعاملة الحسنة , الامانة , الاخلاص , الوفاء وغيرها , وسجايا حميدة عديدة أربكت عقولنا بين صحة وصدق ما انزل الينا ودعينا لحمله وهو بين ايدينا وبين عكس ما يحملون هم, والذي يحدث الان وكما أسلفنا ادوات عدو سبّبت تداخلات وتشوهات في فهم الدين خلقت المعتقدات والآراء ذات المرجعيات الغير موثقة وسلمت يد السطوة لفئات اختارتها بعناية فائقة, فما نراه ليس الا تخبط فكري في الحوار وغياب للنية والقصد في الوصول الى الحقيقة رافق ذلك فشل واضح في تطبيق النظريات الحديثة على الشعوب الغضة , والعلماء في هذا الشأن تخلوا عن الحيادية , والنتيجة التي وصلنا اليها هو انّ من تسّيد الموقف هم عديمو الاخلاق والدين.

الحرب على الاخلاق والدين ومؤامرات الفتنة بدأت منذ عقود طويلة مضت توازيا مع الحرب الشاملة على المسلمين ,فالقضية معقدة والحلول ليست في متناول العامة لان مناهجنا التعليمية ما زالت محرفة فكيف سننتظر اجيالا محررة, ناهيك على ان هذه الحرب تبعتها حروب في شتّى مناحي الحياة ,الثقافية والاجتماعية والاقتصادية منها وما زال العدو يعمل في الخفاء و يحصي الغنائم العظيمة التي لم يكن يتوقع للحظة ان تكون بهذا الحجم...

العلمانيّة القديمة المتجددة لم تأتي بالصدفة لقد خُطّط لها , بل وجّهونا الى انّ هناك علمانية اخرى وأنسونا علمانيتنا .
وسؤال اخير موجه لمن هم على منصة اقرار خطط التعليم في الاردن اذا كنا نعرف اين تكمن مشكلتنا ,هل بالإمكان ان نضع منهاجا عن الاخلاق في مدارسنا خلال المراحل الاساسية ؟ اليابان كما قرأت تفعل ذلك اذا كنا نبحث عن تجربة ناجحة....

للحديث بقيّة.....



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات