إصلاح المدارس أولى من تكثير المساجد
أتذكر أن أحدهم روى لي قصة عن صديق له من "المحسنين" استاء كثيراً حين قام وزير سابق للأوقاف بافتتاح مسجد بناه هذا المحسن على نفقته الخاصة، وسبب الاستياء أن هذا المحسن كان يأمل بأن يتم الافتتاح من قبل شخص أعلى من الوزير بمراتب، وذلك بعد أن تقدم بطلب إلى الوزارة بذلك، وهو ما دفعني للتساؤل حول ما إذا كان الهدف من بناء المساجد طلباً للأجر أم أن لذلك أهدافاً أخرى.؟!
وحتى إن كانت الغاية فعلاً وجه الله، فإن أعمال الخير كثيرة ويصعب حصرها لمن أراد فعل الخير، فبناء مساكن للفقراء، أو اطعام من يبحثون عن بقايا الأكل في القمامة، أو بناء مدرسة في الرويشد أو مركز صحي شامل في الهاشمية، أو إنشاء مكتبة عامة في فقوع أو ملعب كرة قدم في عمراوة هي أمور أولى من بناء مساجد لا يفصل بين بعضها كيلومتر واحد، ولا يتجاوز عدد المصلين في الغالبية العظمى منها أصابع اليدين ـ إذا ما استثنيت صلاة الجمعة طبعاً ـ، وبخاصة أنهم يشيدون هذه المساجد ثم يضعون عهدة الانفاق عليها في عنق وزارة الأوقاف التي لا تجد مفراً من ذلك، الأمر الذي يستدعي مراجعة لفلسفة الأجر والثواب.
تكشف أرقام رسمية من وزارة الأوقاف أن الوزارة تدفع ثمانية ملايين دينار ثمن كهرباء، ومليونين ثمناً للمياه لأكثر من ستة آلاف مسجد منتشرة في أنحاء المملكة، وهذا الرقم يزداد سنوياً بسبب ازدياد عدد المساجد شهراً بعد آخر، إذ كانت مصاريف المساجد من المياه والكهرباء عام 2012 ستة ملايين دينار، لترتفع في العام 2013 إلى سبعة ملايين ونصف المليون دينار، ولتصل العام الحالي إلى عشرة ملايين والرقم آخذ بالصعود.
هذه المساجد يفتقر المئات منها إما لإمام أو لمؤذن أو لكليهما، وهو ما دفع بالوزارة للإعلان عن مجموعة من الخطوات في محاولة لحل الأزمة، حيث أن الوزارة تعاني نقصاً كبيراً ومتراكماً منذ سنوات في أعداد العاملين في المساجد، خاصة وأن كثيراً من هذه المساجد يتم بناؤه بشكل عشوائي ودون علم الوزارة.!
تلك الرواية ذكرني فيها خبر أوردته وكالة الانباء الأردنية "بترا" قبل أيام، حول تبرع إحدى السيدات ببناء مسجد على نفقتها الخاصة بتكلفة بلغت 400 ألف دينار، ولأن الخبر يقول أن المسجد مكون من ثلاثة طوابق، فقد جعلني ذلك أشعر أن المصلين في بلدنا يصطفون في طوابير على أبواب المساجد لا يجدون فيها موطئ قدم لشدة ازدحامها بالمصلين.!
فإذا كان هذا المسجد كلّف 400 ألف دينار ـ وهناك مساجد تكلف أكثر من ذلك بكثير ـ وسيكلف الوزارة نفقات دائمة ثمناً للمياه والكهرباء، وراتباً شهرياً لإمام ومؤذن هما غير متوفرين أصلاً بسبب النقص الحاد في الأئمة والمؤذنين، وكل ذلك من أجل بضعة مصلين لن يشغلوا طابقاً واحداً من طوابقه الثلاثة في أحسن الأحوال؛ أوليس الأولى لو تم استثمار هذا المبلغ في عمل آخر أكثر جدوى؟!
بـ 400 ألف دينار يمكننا كفالة ألف يتيم لمدة سنة كاملة، أو تدريس أربعين من طلبة العلم غير المقتدرين، أو إصلاح مدارس محافظة كاملة وتزويدها بالتدفئة والتكييف وتجهيزها بأفضل وسائل التدريس، أو تأسيس مركز متقدم مزود بأحدث الأجهزة للعناية بالمعاقين ومعالجة الأطفال المصابين بالتوحد، أو التكفل بمعالجة عدد كبير من مرضى يحتاجون عمليات جراحية ولا يملكون ثمن إجرائها، أو إنشاء مصنع صغير يشغـّل مجموعة من الأردنيين وينشلهم من جحيم البطالة التي تنهش مجتمعنا، وجميعها أعمال تستحق الثواب.
قضية الأجر والثواب مسألة ينبغي أن يعاد النظر فيها، بخاصة عند من يملكون القدرة المادية على فعل الخير، فهذا المسجد الذي تكفلت السيدة ببنائه، واحد من عشرات المساجد التي يتبرع محسنون ببنائها، بعضها تصل تكلفته إلى مليون دينار، فإذا ما عملنا أن أكثر من ثلاثين مسجداً يتبرعون ببنائها سنوياً، فهذا يعني أنهم ينفقون عشرة ملايين دينار كحد أدنى على "تكثير" المساجد، وبالتالي فلو وضعوا هذه الأموال في إصلاح التعليم ومناهجه، أو إنشاء مشروعات لتشغيل العاطلين عن العمل، فإن هذه هذه الأعمال ستكون بلا شك أعظم أثراً، ولربما كانت عند الله أكثر أجراً.
Tariq.hayek@gmail.com
أتذكر أن أحدهم روى لي قصة عن صديق له من "المحسنين" استاء كثيراً حين قام وزير سابق للأوقاف بافتتاح مسجد بناه هذا المحسن على نفقته الخاصة، وسبب الاستياء أن هذا المحسن كان يأمل بأن يتم الافتتاح من قبل شخص أعلى من الوزير بمراتب، وذلك بعد أن تقدم بطلب إلى الوزارة بذلك، وهو ما دفعني للتساؤل حول ما إذا كان الهدف من بناء المساجد طلباً للأجر أم أن لذلك أهدافاً أخرى.؟!
وحتى إن كانت الغاية فعلاً وجه الله، فإن أعمال الخير كثيرة ويصعب حصرها لمن أراد فعل الخير، فبناء مساكن للفقراء، أو اطعام من يبحثون عن بقايا الأكل في القمامة، أو بناء مدرسة في الرويشد أو مركز صحي شامل في الهاشمية، أو إنشاء مكتبة عامة في فقوع أو ملعب كرة قدم في عمراوة هي أمور أولى من بناء مساجد لا يفصل بين بعضها كيلومتر واحد، ولا يتجاوز عدد المصلين في الغالبية العظمى منها أصابع اليدين ـ إذا ما استثنيت صلاة الجمعة طبعاً ـ، وبخاصة أنهم يشيدون هذه المساجد ثم يضعون عهدة الانفاق عليها في عنق وزارة الأوقاف التي لا تجد مفراً من ذلك، الأمر الذي يستدعي مراجعة لفلسفة الأجر والثواب.
تكشف أرقام رسمية من وزارة الأوقاف أن الوزارة تدفع ثمانية ملايين دينار ثمن كهرباء، ومليونين ثمناً للمياه لأكثر من ستة آلاف مسجد منتشرة في أنحاء المملكة، وهذا الرقم يزداد سنوياً بسبب ازدياد عدد المساجد شهراً بعد آخر، إذ كانت مصاريف المساجد من المياه والكهرباء عام 2012 ستة ملايين دينار، لترتفع في العام 2013 إلى سبعة ملايين ونصف المليون دينار، ولتصل العام الحالي إلى عشرة ملايين والرقم آخذ بالصعود.
هذه المساجد يفتقر المئات منها إما لإمام أو لمؤذن أو لكليهما، وهو ما دفع بالوزارة للإعلان عن مجموعة من الخطوات في محاولة لحل الأزمة، حيث أن الوزارة تعاني نقصاً كبيراً ومتراكماً منذ سنوات في أعداد العاملين في المساجد، خاصة وأن كثيراً من هذه المساجد يتم بناؤه بشكل عشوائي ودون علم الوزارة.!
تلك الرواية ذكرني فيها خبر أوردته وكالة الانباء الأردنية "بترا" قبل أيام، حول تبرع إحدى السيدات ببناء مسجد على نفقتها الخاصة بتكلفة بلغت 400 ألف دينار، ولأن الخبر يقول أن المسجد مكون من ثلاثة طوابق، فقد جعلني ذلك أشعر أن المصلين في بلدنا يصطفون في طوابير على أبواب المساجد لا يجدون فيها موطئ قدم لشدة ازدحامها بالمصلين.!
فإذا كان هذا المسجد كلّف 400 ألف دينار ـ وهناك مساجد تكلف أكثر من ذلك بكثير ـ وسيكلف الوزارة نفقات دائمة ثمناً للمياه والكهرباء، وراتباً شهرياً لإمام ومؤذن هما غير متوفرين أصلاً بسبب النقص الحاد في الأئمة والمؤذنين، وكل ذلك من أجل بضعة مصلين لن يشغلوا طابقاً واحداً من طوابقه الثلاثة في أحسن الأحوال؛ أوليس الأولى لو تم استثمار هذا المبلغ في عمل آخر أكثر جدوى؟!
بـ 400 ألف دينار يمكننا كفالة ألف يتيم لمدة سنة كاملة، أو تدريس أربعين من طلبة العلم غير المقتدرين، أو إصلاح مدارس محافظة كاملة وتزويدها بالتدفئة والتكييف وتجهيزها بأفضل وسائل التدريس، أو تأسيس مركز متقدم مزود بأحدث الأجهزة للعناية بالمعاقين ومعالجة الأطفال المصابين بالتوحد، أو التكفل بمعالجة عدد كبير من مرضى يحتاجون عمليات جراحية ولا يملكون ثمن إجرائها، أو إنشاء مصنع صغير يشغـّل مجموعة من الأردنيين وينشلهم من جحيم البطالة التي تنهش مجتمعنا، وجميعها أعمال تستحق الثواب.
قضية الأجر والثواب مسألة ينبغي أن يعاد النظر فيها، بخاصة عند من يملكون القدرة المادية على فعل الخير، فهذا المسجد الذي تكفلت السيدة ببنائه، واحد من عشرات المساجد التي يتبرع محسنون ببنائها، بعضها تصل تكلفته إلى مليون دينار، فإذا ما عملنا أن أكثر من ثلاثين مسجداً يتبرعون ببنائها سنوياً، فهذا يعني أنهم ينفقون عشرة ملايين دينار كحد أدنى على "تكثير" المساجد، وبالتالي فلو وضعوا هذه الأموال في إصلاح التعليم ومناهجه، أو إنشاء مشروعات لتشغيل العاطلين عن العمل، فإن هذه هذه الأعمال ستكون بلا شك أعظم أثراً، ولربما كانت عند الله أكثر أجراً.
Tariq.hayek@gmail.com
تعليقات القراء
أكتب تعليقا
تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه. - يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع |
|
الاسم : | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : | |