الوظيفة العامة والأمن الوظيفي للموظف


فكثرت في هذه الأيام التجاوزات على الوظيفة العامة وعدد من القائمين عليها وذلك من خلال الإحالة على التقاعد أو الإستيداع أو النقل التعسفي أو التخطي بالترفيع بقصد الإنتقام والتشفي والتخلص من الموظفين الأقوياء والأكفياء واستبدالهم بذوي القربى وأصحاب النفوذ وهذا ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع وفي هذا الوقت, فالوظيفة سابقة للموظف وتبقى بعد استقالته أو تقاعده أو وفاته وهي أمانة يحملها القادرون ويرد عنها المغمورون العاجزون وهي ليست شكلاً من أشكال المعونة الاجتماعية, بل هي خدمة عامة وإن القصد منها تسيير المرافق العامة بالدولة من خلال تعيين موظفين للقيام بمهامها ومسؤولياتها وإن الموظف للوظيفة وليست الوظيفة للموظف والجهاز الوظيفي بالدولة هو عقلها المفكر وأداتها التي تعمل وعينها التي لا تنام وإن فاعلية النشاط الحكومي وقدرة الإدارة على تقديم الخدمات بكفاءة واقتدار يتوقفان على مدى كفاءة الموظف ونزاهته وصلاح الدولة أو فسادها مرهون بصلاح الموظفين وفسادهم, وأن المحافظة على هيبة الدولة لا يتم إلا من خلال أمور كثيرة من بينها المحافظة على هيبة ووقار الوظيفة العامة والقائمين عليها ولا قيمة للوظيفة بدون الموظف, إذ أن الموظف هو أداة الوظيفة ووسيلتها يتفرغ للقيام بمهامها ومسئولياتها وأن عمله ليس بالمجان أو تبرعاً ويتطلب هذا التفرغ حصول الموظف على حقوق وظيفية عديدة من بينها حقوقه المالية وفي مقدمتها الراتب والذي هو ركن مهم من بين أركان الأمن الوظيفي للموظف وأن الراتب هو حق للموظف وليس صدقة ويدفع للشيخ راتب تقاعدي لقاء ما قدم وادَّخر لدى الدولة في شبابه وحقٌّ للطفل كقرض في حاضره يوفيه في مستقبله وحق للعاجز يدفع بمقتضى صناديق التقاعد والتأمينات الاجتماعية ويستطيع الموظف براتبه ومن خلاله وبه إشباع حاجاته ومتطلباته ومتطلبات أسرته ويعتبر الراتب المنصف من بين أدوات تحصين ومناعة الموظف من انتقال الأمراض الوظيفية وجراثيمها إليه, ومن المفروض أن يكفي له ولعائلته ليعيشا به حياة كريمة طيلة حياته الوظيفية وبعد إنتهاء أو إنهاء علاقته الوظيفية بالدولة لأن كرامة الوظيفة وهيبتها لا تنفصل عن كرامة وهيبة الموظف, ولا تحقق الإدارة الفاعلية إلا بتحقيق أمور ومتطلبات عديدة من بينها رعاية الموظف وحمايته من العسف والتعسف وتحقيق الأمن النفسي والوظيفي له ولافراد عائلته واطمئنانه على حقوقه ويومه وغده ومستقبله لخلق الولاء الوظيفي لديه وبدون تحقيق ذلك لا يكون بمقدور الإدارة تحقيق وإشباع حاجات ورغبات المواطنين والتي هي في مقدمة مهامها ووظائفها وواجباتها ويتطلب لتحقيق ذلك توفيرالراحة النفسية للموظف ليزيد من عطائه وتفانيه لعمله ويمكن القول أنه يتعذر على الإدارة النهوض بواجباتها في غياب توفير الأمن الوظيفي للموظف بمعناه الشامل, إذ لا يمكن لها تحقيق ذلك من خلال موظفين محبطين ومقهورين ومظلومين ومهمشين وغير حاصلين على حقوقهم أو يشعرون غياب العدالة والمساواة وتغليب الواسطة والجهوية والمناطقية والشلليةعلى حقوق الآخرين, حيث أن الموظف المظلوم أو المحبط او المقهور أوالمسلوب الحقوق اشد خطراً على الدولة من أعدائها في الخارج.

إن الوظيفة العامة تحتاج لإصلاحها وتطويرها إلى سياسات وخطط واضحة المعالم ووقت كافٍ ومبرمج ومعقول يقوم بإعداده وتنفيذه أشخاص مؤهلين قادرين لإعادة هيبة الدولة وثقة المواطنين فيها, وذلك بعد أن يتم إعداد وتهيئة البنية التحتية لعملية وتشخيص المشاكل والأمراض الوظيفية ومعرفة أسبابها وتحديد الأدوات والأساليب الوقائية والعلاجية لها, والتي يجب أن تكون هذه الأدوات من بين الموظفين الذين تتوافر لديهم الكفاءة والمعروف عنهم النزاهة والانتماء والولاء والحياد الوظيفي, ويكون هدفهم خدمة الوطن أولاً وعاشراً, مع الإشارة إلى أن التغيير لا يتم بقانون فحسب, بل لا بد أن يصاحب ذلك تغيير وتعديل في العقليات والأذهان والنفوس والسلوك, سواء بالنسبة للمخاطبين بالقانون أو القائمين على تطبيقه, وأنه لا قيمة لأية تشريعات أو سياسات أو برامج أو خطط توضع لحل هذه المشاكل, إذا لم تكن قابلة للتطبيق والتنفيذ يتم البدء بالعمل بها وتفعيلها وتطبيقها, أو كانت تخلو من الإرادة والتحدي أو كانت أدواتها عاجزة ومترهلة وغير قادرة على تحقيق ذلك, كما يجب لكل من يتصدى لعملية الإصلاح للوظيفة العامة والتي هي مهمة وطنية مقدسة, أن يكون موضع إطمئنان لدى الجميع وأن يكون ذو ماضٍ نظيف ومن أصحاب الأكف النظيفة الطاهرة وبعيداً عن الشللية والجهوية والقبلية والطائفية والتأثيرات والمؤثرات بأشكالها وأنواعها وصورها المختلفة, وأن يعمل من خلال الوسائل والأدوات القانونية ومراقبة القضاء, على استئصال الأمراض الخبيثة والمؤثرة في مؤسساتنا الحكومية وهي الواسطة والمحسوبية والتخطي والتجاوز بالترفيعات والتعسف بالتنقلات والتعامل معها بشكل انتقائي وانتقامي وغيرها وأن لا ينحني إلا للوطن والقانون, وأن يتم العمل بجدية وبقوة وبثقة للتخلص من ظاهرة الفساد والفاسدين بالوظيفة العامة بعدل وبعيداً عن الظلم, حيث أن أشد أنواع الفساد التي يمارسها بعض المسؤولين ليس تزييف الفواتير بل تزييف الآراء وتزيين القبيح وتشويه الجميل تزلفاً وتقرباً للرئيس أو الرؤساء وذلك طمعاً في المزيد من المال أو الجاه, وهذا النوع من الفساد الأخلاقي المستشري بالوظيفة العامة على مختلف درجاتها وممن يرفعون رايته يحصلون على مكافأة لا مكافحة ولا ملاحقة قضائية, وإن الفساد بالرأي المزور أشد خطراً وخطورة من الفساد بالمال ويتوجب مكافحة هذا النوع قبل مكافحة الفساد المالي, وتطبيق أخلاقيات وسلوكيات الوظيفة العامة حقاً وصدقاً وترتيب جزاءات رادعة على من يخرج عليها ويرتكب الخطايا والآثام بحق الوظيفة والمجتمع على حدِ سواء, كما لا بد من الإشارة إلى أن القادة الإداريون الأقزام يختارون مرؤوسين أقصر منهم ليظهرو في جانبهم بحجم العملاق ويطمئنون للموظفين الصغار بتصرفاتهم وأخلاقهم ولا يطيقون ولا يتقبلون الموظفين الكبار بأخلاقهم وجدارتهم ويستريحون لكل صغير ووضيع ويبعدون كل موظف كفؤ, فإذا شغرت وظيفة كبيرة مهما كانت تسميتها وارتباطاتها بسلم الهرم الإداري بحثوا عن أضعف المرشحين فاختاروه لها, لأنه بإعتقادهم أن الأكفياء خطر عليهم وأن الصغير والوضيع يحميهم من كشف خطاياهم وآثامهم, ولا يشكل خطراً عليهم بل يتستر على عوراتهم وخطاياهم.

وأخيراً, لا بد من التذكير أن إدارات الدولة يتوجب أن تكون رشيقة وأن يتم التوقف عن التصفيات للموظفين الأكفياء والإبتعاد عند إصدار القرارات عن الظلم والإنتقائية والإنتقامية وبذات الوقت التخلص من الترهلات الإدارية والأمراض الوظيفية التي تنخر مفاصل متعددة بالدولة وهذا يحتاج إلى تنظيف وتطهير أجهزة الدولة من القيادات غير الكفؤة أو المنحرفة أو المتسلقة أو حملة المباخر أو التي وصلت إلى مواقعها في جنح الظلام وبطرق ملتوية واستبدالها بقيادات كفؤة ومخلصة تعيد الروح إلى الجسم الإداري للدولة والذي نهشته وتنهشه الأمراض والاوبئة الوظيفية والتركيز على النوع وليس على العدد وهذا لا يتحقق إلا من خلال مراجعة ملفات الموظفين وإعادة تقييم أدائهم وإنجازاتهم وذلك على إختلاف درجاتهم ومسمياتهم الوظيفية بحيادية ومهنية وتطبيق قاعدة الثواب والعقاب على الجميع وبعدالة وبدون استثناء وصولاً إلى إدارات كفؤة ورشيقة وعادلة, والتي بها تعكس الصورة الحقيقية للدولة ويتولد عنها تجذير الولاء والإنتماء الوطني والشعور بالإطمئنان لدى الجميع رؤساء ومرؤوسين ومواطنين ومستثمرين وغيرهم, وأن تخضع جميع أعمالها لرقابة القضاء والذي هو عنواناً لسيادة الدولة وأمنها وقوتها وهيبتها على حدِ سواء, والله من وراء القصد.



تعليقات القراء

مؤيد
شكراً للأستاذ جودت مساعدة، الموظف في هذا الزمن أصبح لاقيمة له ولا وزن ولا شعور بالامن الوظيفي وشبح الاستغناء والتقاعد والاستيداع يهدد مستقبله كل يوم في ظل وجود مسؤولين يقتلو لدى الموظف روح الاخلاص
14-03-2015 11:15 PM
مؤيد /يتبع
والانتماء في غياب العدالة وتكافؤ الفرص وأصبح بقاء الموظف في وظيفته وكأنها منه من الدولة وكثير من مسؤولي الدولة لايدركو ان الموظف هو اداة الدولة ووسيلتها وبدونه لاتستطيع الدولة تؤدي دورها وخدمة الشعب
14-03-2015 11:18 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات