"الوحدة" جواب مؤجل على سؤال المستقبل العربي


في مثل هذا الاوان من اجمل الازمان، وتحديداً في اليوم الثاني والعشرين من شهر شباط عام 1958، ارتفعت راية وحدوية في سماء القاهرة ودمشق، وانطلق الى الوجود اسم "الجمهورية العربية المتحدة"، وتسلم جمال عبدالناصر مقاليد رئاسة الدولة الوليدة، فيما ضرب شكري القوتلي اروع امثلة التضحية والايثار جراء تنحيه الطوعي والاختياري عن سدة الرئاسة السورية.

يومذاك كانت العروبة نداءً فطرياً وحداءً يومياً لكل ابنائها، وكانت القومية العربية رباطاً جامعاً يؤاخي ما بين عرب المشرق والمغرب، وكانت ثقافة الوحدة بلسماً شافياً لسائر العلل والنعرات الجهوية والقطرية والطائفية والمذهبية والقبلية، فيما كان 'الوزن النوعي' للامة العربية كبيراً ومثيراً لاهتمام واحترام دول العالم كافة، مهما تنوعت مواقفها ومخاوفها.

يومذاك كانت البوصلة العربية تتجه نحو الصواب، وكانت الجماهير الشعبية تدرك بفطرتها الوطنية ان الوحدة طريق الخلاص، وان مجد العرب وعزهم وبأسهم لا يتحقق الا من خلال مشروع واحد محدد، سبق ان دشنه الخليفة عمر الفاروق حين وحّد الجزيرة والعراق ومصر والشام، واستأنفه فيما بعد صلاح الدين ومحمد علي، ثم ما لبث ان استعاده جمال عبدالناصر الذي تحدى الشرق السوفياتي والغرب الامبريالي حين وضع النقاط المصرية على الحروف السورية، واهال التراب على خرائط سايكس - بيكو الملعونة.

لم تعمر دولة الوحدة طويلاً، بل جرى وأدها قبل ان تتجذر ويشتد ساعدها وتشكل عنصر جذب وقوة مثال لباقي الاقطار العربية، فقد تكاثر عليها متآمرون شتى من عرب واجانب ما زالوا يمارسون الاعيبهم التخريبية، ويعيثون في الوطن العربي فساداً ودماراً حتى يومنا هذا، ولعل ما يجري راهناً في شقي دولة الوحدة - سوريا ومصر - من ارهاب وتمزيق وتهديم، اوضح شاهد وافصح دليل على ان اعداء الوحدة القومية بالامس، هم انفسهم اعداء الوحدة الوطنية هذا الاوان.. وهم انفسهم اضلاع 'مثلث برمودا' المؤلف من الحركة الصهيونية، والامبريالية الامريكية، والرجعية الوهابية، اما ما تبقى فمجرد ملاحق وتوابع وذيول.

عموماً، لسنا نكتب اليوم بقصد التغني بقيام دولة الوحدة ثم البكاء على اطلالها، ولا لغرض الثناء على عبد الناصر الذي تولى قيادتها ثم الانثناء باللائمة عليه لانه عجز عن حمايتها وادامتها.. بل هي مناسبة نهتبلها للعرض والمقارنة بين واقع الامة العربية ايام انتشار ثقافة الوحدة والوعي القومي، وبين واقعها الحالي المزدحم بالافكار والاطروحات الغيبية والتغريبية التي ابتعدت بالعرب كثيراً عن روح العصر ودرب المستقبل، وقذفت بهم خلف كثبان الجاهلية السياسية وقضبان التخلف العقلي، وحولتهم الى عربان وقطعان ومجاميع بشرية فاقدة لذاكرتها، وتائهة عن هويتها، وهائمة على وجهها بلا هدف ولا امل ولا عنوان.

مؤسف ان يعمى، او يتعامى، عرب اليوم عن اهم اسباب قوتهم وعزتهم، وان ينسوا، او يتناسوا، ان الوحدة اهم شروط ومرتكزات استقلالهم الحقيقي ونهضتهم، وان يجهلوا، او يتجاهلوا، ان الامم والشعوب التي تعجز عن تحديد اهدافها الاستراتيجية بدقة، وتعيين وسائل تحقيق هذه الاهداف بنجاعة وشجاعة، مرشحة للضياع والاندثار والخروج من رحاب الجغرافيا، والسقوط من عين التاريخ.

انظروا كيف ادركت قارة بحجم اوروبا ان ازدهارها وتقدمها واستقرارها يكمن في توافقها واتحادها، وكيف استطاعت غض الطرف عن عداوات الماضي وتعدديات الاعراق والقوميات، وصولاً الى تحقيق هدف التضافر والائتلاف والعمل الجماعي المشترك، وكيف اغدقت دولها الموسرة الاموال الطائلة على دول الاتحاد المعسرة دون منة او تقاعس، بل بمنتهى الاريحية الاخوية والاحساس العالي بالواجب والمسؤولية.

على خطى القارة الاوروبية تسير حالياً دول امريكا اللاتينية، وحتى دول القارة الافريقية.. فيما تسير امتنا العربية في الاتجاه المعاكس على طول الخط، وتتجرع مرارة التشرذم والتشتت يوماً بعد يوم.. فبعد فصم عرى الوحدة المصرية السورية تم تفكيك دولة الوحدة الاردنية - الفلسطينية، واجهاض سائر المشاريع الوحدوية او الاتحادية او التكاملية العربية التي شهدتها عقود السبعينات والثمانينات والتسعينات، وما ان اطل القرن الحادي والعشرون حتى انشطر العراق الى عراقين، والسودان الى سودانين، واليمن الى ستة ايمان، وليبيا الى ارخبيل له هيئة الصومال، فيما تحول مجلس التعاون الخليجي الى جثة تبحث عمن يدفنها، وتحولت جامعة الدول العربية الى اضحوكة واكذوبة والعوبة يندى لها الجبين، وليس كمثلها شيء في العالمين.

يحار المرء في قراءة الوضع العربي وتحليله وتعليله.. فهل هو ناجم عن ذهنية مسطحة ومفلطحة ومغرقة في الضحالة والجهالة والامية السياسية والثقافية وحتى الابجدية ؟؟ ام هو ناجم عن سيكولوجيا مريضة وموبوءة بالانانية والدونية والانتهازية والانهزامية واللا ابالية والقابلية الشديدة للركوع والخضوع في حضرة الاقوياء ؟؟ وهل يقتصر العيب الانفصالي على الحكام العرب الذين يرفضون التنازل عن كراسي الحكم، ام يشمل ايضاً الجماهير الشعبية التي لم ترفع طوال سنوات 'ربيعها العربي' شعاراً وحدوياً واحداً، ولم تخطر لها قضية الوحدة العربية على بال ؟؟

اخطر ما في وباء 'الربيع العربي' انه زود الجماهير الثائرة ببوصلة مغرضة، واقتادها الى المكان الخطأ، واشغلها بالتفاصيل والمحليات عن الاساسيات والكليات، وايقظ لديها مخزونات 'الانا السفلى' وليس منظومات القيم والمثل العليا، واثار فيها الولاءات الضيقة والاحن المنسية والرغبات الانقسامية وليس التطلعات الوحدوية، كما اتاح للجماعات الهمجية والتكفيرية ان تعلن عن وجودها، وتمارس وحشية جرائمها، وتجد بين الناس من يلتحق بها وينخدع باضاليلها واباطيلها.

ولكن، ورغم كل هذا الظلام الدامس والوضع البائس، هل يحق لنا ان نيأس ؟؟ وهل يجوز لنا ان نسلم بالامر الواقع ونستسلم للواقعية السياسية ؟؟

اغلب الظن اننا - معشر الوحدويين العرب - لسنا في وارد النكوص على اعقابنا والاذعان للقنوط والاحباط، ولسنا بازاء مغادرة مواقعنا ومواقفنا وقناعاتنا وثوابتنا تحت اي ظرف، ولسنا بصدد الكف عن الرهان على عودة جماهير امتنا الى وعيها القومي والتزامها الوحدوي، مهما طال الزمن واشتدت كوابيس الردة والتجزئة والتمزيق والتفكيك والانقسام.

سنظل نبشر بالوحدة، ونكبر للواحد الاحد الفرد الصمد.. سنظل نطل على المستقبل بمنظار الاستبشار وعيني زرقاء اليمامة.. سنظل نراهن على يقظة امتنا من هذه الغفلة الوجودية الخانقة.. سنظل نطور فكرنا الوحدوي ونحدثه ونغنيه، وفقاً لمتطلبات العصر ومستجدات الايام.. وسنظل ندعو للحوار العقلاني والمجادلة بالتي هي احسن بين سائر مكونات الامة العربية وقواها الحية والفاعلة، بقصد التفاهم والتلاحم والتوافق على انتاج الكتلة الشعبية التاريخية القادرة على اخراج دولة الوحدة العربية من دائرة الحلم الى حيز الوجود.. \'\'انهم يرونه بعيداً ونراه قريبا\'\' صدق الله العظيم.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات