( مات .. على هامش الحياه )


ذكرى رجل طاعن بالسن رحل عن هذه الدنيا بصمت ...عمره ( 60 ) عاما... اتذكره جيدا .. كان جاري بأحد أحياء عمان الشعبيه ..
كان ينهض باكرا الساعه الثاتيه صباحا ويجوب شوارع عمان بحثا عن ( علب الكولا ) الفارغه .. ويبقى على هذ الحال حتى السابعه او الثامنه صباحا .. كنت الحظ عودته اثناء خروجي من البيت قاصدا عملي ... كان يضع ( الكيس / الشوال ) على كتفه متقوس الظهر الى الامام والكيس متدلي من الخلف ويسير ببطء نحو غرفته .. كان يلقي علي تحية الصباح ويمضي .. اثار التعب والارهاق بادية عليه .. ثم بعدها يقوم ببيع ما جمعه من علب الكولا الى صاحب ( الخرده ) بما قيمته دينارين هي دخله الوحيد صيفا شتاءا .. لم يتسول بيوم من الايام .
كان مستأجر غرفه متواضعه بداخلها ( حمام ) لا يتجاوز طولها بعرضها ال (مترين ) مع انخفاض واضح بسقف الغرفه .
بالمساء ..
احيانا وبأوقات متباعده كان يزورني ... لم اتردد بحسن ضيافته .. كان رث الملابس .. ضعيف البنيه .. يرتدي نظاره طبيه قديمه جدا اطارها اسود وقد لف عليها مجموعه من ( اللصق/ تب ) بلون ابيض ليجبر كسر احد اطرافها .. .. يشعل سيجارته من النوع الردئ والرخيص باصابع مرتجفه .. تعرفت عليه بحكم الجيره .. حدثني انه متزوج من احد الخليجيات قبل 30 عاما اثناء عمله هناك وقد انجب ابنان اثنان منها .. وقد حصل الطلاق بينهما بعد مرور 5 سنوات زواج.. فاحتفظت هي بالأولاد وعملت جاهده على ان تنهي عقده وعمله واقامته داخل تلك الدوله مما اضطره الى العوده الى بلده الاردن .
وقد حاول مرارا ان يعود ليرى ابناءه قلم يستطع .. فقد بذلت زوجته السابقه كل جهدها لمنعه دخول البلاد ورؤيه اولاده وقد نجحت بذلك .
تنقل بأعمال حره كثيره داخل الاردن .. من عامل باطون الى عامل بمطعم الى بائع بسطه وهكذا الى ان ادركه الزمن فلم يعد قادرعلى العمل فلجأ الى عمل لا يحتاج الى قدرات جسديه خارقه ويحقق له مكسب حلال ومصروف متواضع من خلال التقاط وجمع علب الكولا الفارغه.
كان ايجار غرفته ( 14 ) دينار هذا الامر قبل 9 سنوات .. والباقي من دخله يصرف به على نفسه ... كنت اخفف عليه من عبأ الحياه بأن اسليه بقصه من هنا ومن هناك ... ولا ازال اتذكر كيف كان يغرق بالضحك حتى تدمع عينيه من خلال احاديثي معه والتي كانت تتصف بالغرابه والتحليل والمسخره .. ومن عادتي انا عند الحديث ان احرك يداي وارجلي وامثل الحاله او القصه بطريقه عفويه انفعاليه .. فكان يضحك كثيرا لمنطقي المعوج والغريب وتفسيري للامور بطريقه تمثيليه ومن حركاتي العشوائيه وردور افعالي .. اي انا كنت اضحك على حالي .. هبيله شو بدك تحكي.
كان يعتبرني صديقه المقرب نوعا ما.. وله منطق صلب وصعب ومحتدم ببعض الامور فكنت اتجاوزها واحترمها بنفس الوقت .. اذا واجهته مشكله مع صاحب السكن او مع اي انسان اخر او اي معضله او سوء حال كان يلجأ لي لمساعدته .. فكنت اساعده وادافع عنه .. كثيرا ما كان صاحب البيت يتهجم عليه بسبب تخلفه عن دفع الايجار وخاصة بفصل الشتاء كون الخروج لالتقاط ( علب الكولا ) بذلك الفصل يكون صعبا وصعبا للغايه بحكم ظروف الطقس وقلة وجود العلب بالشارع لامتناع الناس بفصل الشتاء على شربها كما في الصيف .. فكنت افزع له وكثيرا كان يفاجأني بقرع الباب وينادي علي .. بوجهك يا برهان .. الحقني ..دخيلك .. شوف صاحب البيت او شوف فلان .. او منشان الله قطع عني الكهربا دبرني .. وكنت اتدخل كثيرا لدى صاحب البيت واستسمحه وادفع له المكسور على هذا االختيار الطيب من ايجار بيت والذي لا يتجاوز ثلاث او الاربع دنانير .. صاحب البيت اجمالا لا يلام ( من حكم بماله ما ظلم ) انا لا يعنيني المسائل الانسانيه التي يجب ان يتمثل بها صاحب البيت هذه الشيء يعود له وان كنت بكثير من الاوقات اذكره بفعل الخير ومخافة الله ومساعده الفقير وبكل ادب ويسر واحترام واسلسل له المعلومه بطريقه لبقه بدون تجريح او اجبار .. فكان احيانا يتجاوب واحيانا لا يتجاوب هذه المسأله بينه وبين ربه .
ما ذكرني به بالأمس .. ابني الصغير كان يحمل بيده ( معلقه شاي ) طويله لون فضي فقد اهداني اياها هذا الانسان بيوم من الايام .. ولا ادري كيف لا زلت احتفظ بها .. ومن الغريب انني احتفظت بها .. واعترف بأنني احتفظت بها من غير قصد .. ولا اعلم كيف احضرتها معي الى بيتي الزوجيه ... لكنها رافقتني .. فتأملتها طويلا .. فمن خلالها اعادت لي شريط ذكريات طويل مع هذا الانسان .. ( رجل العلب الفارغه ) .
في عام 2004 رن هاتفي الساعه الحاديه عشره صباحا ...
الو
الو .. كيفك برهان .
هلا أحمد .
معاك خبر .
خير انشا الله
(ابو وحيد ) اعطاك عمرو .
وحد الله .. قول وغير.. امبارح كان سهران عندي.
والله هذا اللي صار .. اليوم الصبح .
يا زلمه مش مصدق .. وكيف مات .
داخ على درج العماره ووقع .. وابوي نادالو الدفاع المدني .. ووصل المستشفى متوفي وهيو حاطينو بالثلاجه .
تلقيت الخبر كالصاعقه .. يا الله .. رحل ابو وحيد .. بالامس .. بالامس كان معي .. انتهى اجلو .. ( كل نفس ذائقة الموت ) .. يا الله عليك يا ابو وحيد .. عشت وحيدا مغلوبا مظلوما تعيسا فقيرا حزينا وها انت ترحل بصمت .
الرجل كان وحيدا .. لا اهل له ولا اقرباء .. كان له اختان مغتربات احدهما بالشام والاخرى لا اعلم والله اعتقد بدوله من دول الخليج .. واخ كبير على ما اظن توفي منذ زمن بالشام واخر بالضفه .. وزوجته واولاده انقطع التواصل والحديث معهما الا ما نذر .. فقد كان احيانا يستخدم هاتفي للحديث مع ابناءه الموجودين بدولة الخليج ومع اخواته وقد كان يطلب منهم المال ولا ادري ان كان هناك استجابه ام لا.
بقي بالثلاجه القرابه الثلاث ايام ... واحد الجيران اجرى اتصالات مع زوجته وابناءه الذين اصبحوا شبابا واخواته وابلغهم الخبر ولم يكن لهم ذلك ردة الفعل او الاهتمام .. وقد راهن الجميع على ان من سيقوم بالدفن هي ( الامانه ) ويا دار ما دخلك شر .. والحق يقال لقد ابلغت احدى قريباته بأنها سترسل مالا لدفنه وهذه المسأله تحتاج الى وقت وقد كان هناك تردد حتى بهذا الامر .
عزمت امري لوجه الله تعالى ..ان اقوم بتحمل تكاليف دفنه من الالف للياء وقد ابلغت الجميع بذلك .. وتم الاجتماع ببيتي على مستوى جيران وقمنا بتوزيع المهام وتم الاعداد لكل شيء .. من باص الأمبلنص الى غسيله وتكفينه ودفنه .. الى اخراج الاوراق اللازمه ..
في اليوم التالي توجهنا الى المستشفى وقمنا باجراء اللزم واخرجناه من الثلاجه وكان قد مضى على وجوده تقريبا ( 5 ) أيام .. وأكرام الميت دفنه .. توجهنا به الى المسجد وودعناه ثم الى المقبره وتم الدفن .. ثم العوده .
اقمت له بما تيسر لي غذاء متواضع للجيران عن روحه وقد قمت بأحضار بفضل الله مستلزمات الغذاء وتوكل احد الجيران جزاه له كل خير بتجهيز الغذاء وطبخه .. وتجمعنا عند احد الجيران باليوم الثالث وقرأنا الفاتحه على روحه وتناولنا الغذاء.
علم اهله بهذا الامر.. وقد قيل لهم بأن فاعل خير وهو احد جيرانه قد قام بالتكفل بجميع امور دفن قريبكم .. فقد ابلغوني بأنهم قالو جزاه الله كل خير بميزان حسناته ..
هذه الامر قمت به وانا اعزب ولم يكن لدي المسؤليات الكثيره وانا الان كمتزوج .. لكن هذا لا يعني ان الانسان لا يقدم الخير .. بالعكس الرسول محمد ( ص ) قال ( الخير بأمتي الى يوم الدين ) .. ورغم فقري لن اتوانى عن عمل الخير او المساعده ولو بشق تمره مهما استطعت .
اقسم بالله العظيم ..انه قبل اسبوع من وفاته اخبرني بأن نظارته الطبيه قد وقعت منه اكثر من مره بالفتره الاخيره وانكسرت وكلما يعاود الصاقها تعود وتنكسر وشكى لي بأن نظره اصبح ضعيفا جدا وانه بحاجه الى تبديل نظاره .. وانه لا يدري ما السبب .. السبب بالنظاره ام بنظره .. وقد ابدى استغرابه من هذا المر بحركه من يديه ... ثم ابلغني بأمر اخر فقد قال لي – في اشي بصير معي مش قادر الاقيلو تفسير .. يا زلمه بقوم بالليل بلاقي فرشتي وانا عليها موجوده على باب غرفتي في حين انا والله لم افرش هناك لكي انام فانا افرش فرشتي ومعروف بأنني انام بصدر الغرفه .. وقد تكرر معي هذه الامر يا برهان اكثر من مره وكل يوم تقريبا وعلى مدار ثلاث ايام حتى امبارح صار معي هذا الحكي .. وكان ردي ربما انا زي ما بسمع ان هذه المنطقه او العماره التي نسكنها قيل لي بأنها منطقه اثريه سابقا حيث كانت العماره قريبه من منطقة اثار .. وقد قيل لي بأن هناك من يسمع اصوات او حركات غيبه ربما يعاز السبب لها ... فقد اجبته بفطرتي وبشكل عادي .. فاجابني ممكن .
عندما مات واستحضرت هذين الامرين اللتان حصلا معه واقد اخبرت الجميع بتلك الامور .. ربما كانت اشارات ودلائل من بعيد والله اعلم على انه كان سيرحل عن هذه الدنيا وكان هناك من كان يود بطريقه او بأخرى ان يمرر له رساله استعد ستنتقل ( من باب الممر الى باب المقر ) وانك سوف تغادر غرفتك وانك لن تعود بحاجه الى ( نظارتك ) فقد حان الوقت لكي تتخلى عنها وتتخلى عنك للابد .
لم ازر قبره يوما من الايام .. وقد قال لي جار قام بزيارة احد اقربائه المتوفين بالمقبره بأنه ذهب لزيارة قبر جارنا ابو وحيد بعد سنه تقريبا بأن قبره على حاله كما دفناه .. مغطى بالتراب فقط ( وطوبه) عند راسه اشاره الى وجود قبر فقط .. وبدون اسم .. عاش مجهول ومات مجهول .. واذا اردت ان ازوره يوما لن استطيع الوصول اليه او الاستدلال عليه .. سبحان الله .. عاش بصمت ورحل بصمت . رحمه الله

ملاحظه : كم انسان على وجه الكره الارضيه هو ابو وحيد ؟ .. اذ لم يكن لك قيمه ووزن بالحياه وبدار الممر .. قد يكون لك وزن وقيمه بدار المقر.
والسلام عليكم
Burhan_jazi@yahoo.com












تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات