الربيع العربي ومستقبل الديموقراطية العربية


لقد أخذت بعض الأنظمة العربية، وخاصة تلك المعروفة بالاستبداد، والحزب الواحد، والمغالاة والتطرف في علاقاتها العربية والدولية، أقول بدأت تتحدث عن ضرورة الإصلاح، وبدأت تعترف أن الإصلاح أحد الأسس التي لا بد من رفعها والبناء عليها من أجل تحقيق الحريات الشخصية والمجتمعية، وتحقيق العدالة والديموقراطية والاستقرار. توحي هذه الاعترافات والتوجهات المخادعة كأن هذه الأنظمة وصلت إلى سدة الحكم بالأمس القريب، أو قبل ساعات فقط، أو كأنه كان هناك نظاما آخر يمنع الحريات ويقمع الآراء، ويفتك بالمعارضين، ويحول دون سيادة القانون، ويمارس القمع والدكتاتورية، ويفرض على المجتمع رئيسا أوحد مدى الحياة. مواقف تقود إلى الاعتقاد أن تلك الأنظمة بحاجة للوقت فقط رغم تكلسها عقودا في السلطة. وبسرعة أشير إلى أنه لم يكن يعوز تلك الأنظمة الوقت أبدا، بل كانت تنقصها النية في التنفيذ، والقدرة على فهم فروض التنمية السياسية والاقتصادية. فالقذافي قضى في السلطة ما يقارب نصف قرن إلا قليلا، وزين العابدين قد شق ربع القرن، وكذلك الأمر بالنسبة إلى على عبدالله صالح، ومزّق حسني مبارك ثلاثين عاما لينهيها بإعلانه المبتور أنه "لا توريث ولا رئاسة مدى الحياة".

إن الموقف الدولي، والمناصرة الدولية للمطالب الإصلاحية في العالم العربي شكل الداعم الأهم من أجل ضمان تحقيق تلك المطالب. إلا أن الموقف الدولي قد اتخذ في ممارساته ومواقفه السياسية الداعمة أشكالا متعددة. فمثلا كان الموقف الدولي ناقدا لسياسة على عبدالله صالح تجاه الإصلاح وإرجاءه، والمناورات التي كان يتبعها لتخدير المعارضة والسعي لشقها، مع الحفاظ على العصا الغليظة (الجيش) في وجه المعارضة، والاتكاء على الرافعة الخليجية التي دعمته لأنها لا تريد "سلالا" آخر في اليمن في القرن الحادي والعشرين.

كما اتخذ المجتمع الدولي موقفا مغايرا تجاه انتفاضة البحرين. ولا يمكن وصف الموقف الدولي خلال ربيع تونس إلا بالحياد التام. أما في ليبيا فقد كان الأمر مختلف جدا. فقد كانت هناك رغبة في الإسراع بتخليص الشعب الليبي من الطاغية وآلته العسكرية. فتم الاتفاق على تحييد وتعطيل عمل قوات القذافي من خلال استراتيجية "التدخل دون رجال على الأرض". فكان للقصف الجوي تأثيرا فائقا. فقد حافظ على أرواح الليبيين من ناحية، وجمد قدرات أنصار القذافي وعطل حركتها كليا.

وتميز الموقف الدولي تجاه الربيع المصري بالإعجاب الشديد بقدرة الحشد الجماهيري في ميدان التحرير، وانضباط الجيش المصري وغياب الرغبة لديه في التدخل العنيف ضد مئات الآلاف في ميدان التحرير. كان واضحا أن الجيش لم يكن ميالا للنظام، وكان الضباط والجنود يشاركون المنتفضون في الرغبة في التغيير والإصلاح. وكان واضحا أيضا أن العالم لم يبخل على المتمردين على حسني مبارك وحزبه وورثته وقوات أمنه بالدعم المعنوي، والإعجاب، والتغطية المباشرة تلفزيونيا وعبر الإنترنت وغيرها من وسائل الإتصال. فلم تكن هناك رسالة أكثر وضوحا أمام مبارك وحكومته بانعزالية نظامه إقليميا ودوليا. فاضطر إلى الاستقالة محاولا إبقاء السلطة في أيدي فريق الأنصار بدلا من الورثة.

ما نراه اليوم في سورية، مغاير لكل السيناريوهات التي شاهدناها وشاهدها العالم عبر عام ونصف من الربيع العربي. لننظر إلى المشهد محليا: فقد رأى بشار الأسد وفريق الأمن الذي عمل تحت إمرة أبيه عام 1982 ممارسة البطش بالمنتفضين لقصم ظهورهم مبكرا وطمس الحركة ووأدها دون أن يمد العالم يده لنصرتها. وقع بشار وجماعته في خطأ كارثي باتباع سياسة أبيه خلال الحرب الباردة دون مراعاة العلاقات المعولمة ليس فقط بين الدول، بل بين الشعوب والأفراد أيضا. دفع النظام السوري بالأمن والمخابرات، فبدى له أن الأمور تسير ببطئ ولا تحمل في ثناياها أي ضمانات لتراجع المطالبين بالإصلاح. كان الأمر واضحا بضرورة دفع الجيش إلى التدخل في المدن والقرى، وإطلاق يد الجيش في القتل، والاغتصاب، والنهب، والإرهاب لإعادة الجني إلى السراج. كان النظام يتكئ على الذراع الروسية بقوة، وخاصة بعد استخدام الفيتو المزدوج (الروسي-الصيني) لصالحه في مجلس الأمن. كان بشار وفريقه يراهنون على أن عودة بوتن إلى قمة السلطة ستحمل معها موقفا أكثر دعما لنظام بشار مما قدمه مدفيديف. ثبت أن الاستقراء كان خاطئا كما سنرى بعد قليل.

كان استقراء الأسد والحرس القديم المحيط به لتطور الأمور مشوشا كليا. كان فريق النظام السوري يعتقد أن المتمردين عليه سيشعرون بالعزلة أمام الدعم الروسي، وكان يظن أن الدعم والتعاطف العربي سينضب بسرعة، وبالتالي سيخرج من المعركة منتصرا، وسيفرض على بقية الدول العربية إيقاعا سياسيا معينا يلائم مرحلة جديدة بشار الأسد بطلها، مرحلة تتمحور حركتها ولغتها حول تعبيرات ضبابية استخدمت طويلا ولم يكتشف أحد خطلها وركاكتها كتعبير "نظام الممانعة" الذي لاكته الألسن ولم يُقنع أحدا. تكسرت كل السهام، وبقيت الانفاضة تواصل نموها، وتزايد الدعم المادي والمعنوي العربي والتركي والأمريكي والأوروبي لها. وعلى عكس كل توقعات النظام السوري لم تفلح إيران في فرض إيقاع إقليمي معين يؤدي إلى تقليص الدعم الإقليمي للمتمردين، وفي نفس الوقت بدأ التعاطف العفوي بين الشعوب في الغرب يشكل قوة فاعلة تطالب الغرب بالتدخل لوقف حمامات الدم، وجرائم النظام العلوي. كما بدأ الموقف الروسي يتململ، وبدأت روسيا في استخدام لغة دبلوماسية تفيد أن الأسد ليس جزءا من الحل الذي تراه موسكو. تزامن ذلك مع رفض روسيا المصادقة على دخول إيران عضوا كاملا في منظمة شنغهاي للتعاون بدلا من عضو مراقب. كانت الموقف الروسي تجاه إيران يقوم على قناعة روسية-صينية أنه يجب على منظمة شنغهاي للتعاون ألا تقبل أعضاء فرضت عليهم عقوبات دولية. ورغم أن ذلك مؤشرا واضحا على التراجع عن دعم إيران في موقفها المناوئ للغرب، فإنه كان يعني ضمنيا أن العقوبات ضد إيران تحمل شرعية دولية، وأن روسيا تأخذ بعين الاعتبار وتتفهم شرعية تلك تلك العقوبات. النتيجة: أسقط في يد النظام السوري، ولم يختلف الأمر بالنسبة لطهران. لم يعد خافيا على طهران ودمشق أن بوتن على غير ما توقعتا من تشدد في سياسة الكريملن تجاه الغرب، جاء ليفتح أبوابا نحو الغرب في علاقات روسيا الدولية.

وبين الأسطر يمكن قراءة حقائق دمغة تفيد أن الغرب ليس ضد وصول الأحزاب الإسلامية إلى السلطة في عالم عربي جديد. هذا الموقف فرض على القوى السياسية التي شكلت محركات الربيع العربي تبني شعارات جديدة، والإعلان عن قناعات سياسية جديدة لا تقوم على عقيدة معينة. وقد تجلى ذلك في المملكة المغربية حين صرح عبدالإله بنكيران، رئيس الوزراء الجديد، بعد انتصار حزب العدالة والتنمية ذو التوجهات الإسلامية أن حكومته لن تفرض الحجاب على النساء، ووضع الإطار العام لسياسة حكومته حين قال أن " الله سبحانه وتعالى خلق الناس أحرارا .. ولن أهتم هل تلبس النساء لباسا قصيرا أو طويلا، هذا أمر جانبي". كما يمكن قراءة سطورا ساطعة بين السطور في الزيارة التي قام بها السيناتور جون مكين إلى ليبيا خلال الانتفاضة، حيث استقبله الثورا الليبيون استقبالا مميزا، يشير إلى قدرتهم على تفهم سياسات الغرب، والقدرة على التعامل معها، وليس رفضها والارتخاء خلف الرفض والتحفظ. ومن بين القراءات أن هذا الموقف ينم عن قوة وثقة في النفس لدى قيادة الثورة الليبية، والقدرة على شق طريق سياسي جديد يمهد لمستقبل أفضل محليا، وإقليميا، ودوليا.

كما يمكننا الإشارة إلى معالم أخرى على طريق الديموقراطية العربية تتمثل في ميل التكتل الأكبر في الانتفاضة المصرية إلى الانفتاح وتجنب السياسات الدوغماتية القائمة على الأيديولوجيا. فتأسيس جماعة الإخوان المسلمين حزبا سياسيا لا يحمل اسمها يعني بالدرجة الأولى حرص الجماعة على إبقاء الأبواب مفتوحة أمام التعامل مع مختلف التيارات، وللاستجابة للمطالب الشعبية، وتجنب الجمود، والمحافظة على درجة عالية من المرونة السياسية التي تساعد على المناورة على الساحة المحلية والإقليمية والدولية أيضا. ومن الدلائل على مرونة سياسية ملحوظة في الحياة السياسية الجديدة لجماعة الإخوان المسلمين موافقتها على التعديلات الدستورية التي وافقت عليها أغلبية الشعب المصري في التاسع من مارس/آذار من هذا العام، ودعمها لمرشحين مستقلين في الانتخابات النيابية أيضا.

ومن دلائل التغيير والانفتاح في المواقف والسياسات التي تتبعها الأحزاب الإسلامية ما صرح به صدر الدين البيانوني، المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في سورية في المؤتمر الصحفي الذي عقده في تركيا في 27 مارس/آذار 2012 وقال فيه أن الجماعة "تسعى لدولة وطنية ديمقراطية تعددية"، وأنه " لا يمكن التفريق بين أبناء الوطن والمجتمع حسب عرقهم أو دينهم أو جنسهم". إن هذه المواقف السياسية ليست غريبة على الإسلام، لكن يمكن القول انها جديدة في التزامات الأحزاب السياسية القائمة على أسس دينية. إن هذه المواقف مطمئنة، وواعدة، وتعني أن القيادات الإسلامية خلال فترات نفيها الطويل في أوروبا قد استوعبت بنيان الدولة الحديثة وعلاقاتها بالدين والمجتمع والتعددية والديموقراطية.

إن تحليل كل المعطيات التي رشحت عن القيادات الجديدة في دول الربيع العربي تشير إلى تغير كبير في ما كان يشاع من تخوف من سيطرة الأحزاب الإسلامية وما سيجلبه ذلك من تزمت، وتراجع في الحريات، والانغلاق والتوجه نحو الخلف. لكن انتخاب عبدالباسط سيدا، وهو من أصول كردية، رئيسا للمجلس الوطني السوري لا يقف دليلا على الانفتاح وقبول التعددية فحسب، بل ضمانة لممارسة تلك المبادئ الحديثة، والإلتزام بها عند بناء الدولة الحديثة في سورية وغيرها من الدول التي انعتقت من طغيان العسكر المسيسين، والورثة المؤدلجين.

لم تعد الحكومات مطلقة الحرية في رسم السياسات والتراجع عنها أو التلاعب بها، بل مسؤولة عن مواصلة برامج سياسية أعلنت عنها ووصلت بموجبها إلى سدة الحكم لسبب واحد فقط، هو قبول الشعب لتلك البرامج. وليس هناك ضمانة أمام سحب الثقة من أي حكومة كانت، إذا تلكأت أو تراجعت عما أعلنته والتزمت به كبرنامج لسياساتها. وسيكون للفصل بين السلطات مكانة حساسة تخضع للمراقبة الشعبية وقوى المجتمع السياسية، لضمان المحاسبة والشفافية والتوازن بين السلطات.



تعليقات القراء

سليم براهمة
كلام هام جدا، وموضوع لا بد من قراءته والتمعن فيه، واستخلاص الدروس ليوم غد.
مقال يحلل الحاضر ويلقي ضوءا على المستقبل القريب.
13-06-2012 04:07 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات