الهِجْرَةُ : مُنْعَطَفٌ وتَّارِيخٌ


ها هي ذكرى هجرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، التي أُلهم سيدًنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وأُلهم الصحابةُ – رضوان الله عليهم – أن يتخذوا هذا الحدث الجلل ، بداية لتاريخ هذه الأمة .
تمرُّ علينا في مناخ من التواضع ، والصمت ، على خلاف ما ستطل به علينا ذكرى السنة الميلادية والذي سوف يلبسُ العالم يومَ ذاك ثوبًا قشيبًا من الاهتمام والاحتفاء والاحتفال ، وما ستلاقيه من طنينٍ وصخبٍ وضجيجٍ ، ستبقى أصداؤه أيامًا متطاولة ، رغم عُهر المحتفلين .
في حين أننا ننظر إلى ذكرى العام الهجري ، الذي يمر علينا ، فنجد كما قلت أنه سار في مناخ من الصمت و التواضع ، ولا أظن أنُّ هناك ما يشير إلى هذا الحدث الجليل الضخم ، ولا إلى هذا المَعْلَمِ ، ولا إلى تجدد هذه الذكرى ، إلا أصبعًا واحدةً ، هي أصبعُ الاحتفاءِ الرسميِّ الباهت الذي لا يقدم ولا يؤخر، والعطلةُ الرسميةُ ، بدخول عام هجري جديد .
لا أدري ، لماذا لا يهتم المسلمون بهذا الحدث العظيم ؟! الذي من خلاله تغيَّر وجه العالم ، حينما خرج المصطفى – صلى الله عليه وسلم – من مكَّة مظلومًا مقهورًا مشردًا مطرودًا إلى طيبةَ الطيبةَ ، البلدة المباركة ، فأسَّس فيها دولة الإسلام ، وهيَّأ فيها رجالا ، ربَّاهم ، فأحسن تربيتهم ، وأدَّبهم فأحسن تأديبهم فساحوا خلال الديار ، يدعون إلى الله ، وينصرون رسوله - صلى الله عليه وسلم - يدفعون عنه أذى الكفار ، حتى يُبُلِّغَ دين الله الذي أمره أن يُبَلَّغه للعالمين ، ففعلَ بأبي وأمي ، حتى أتاه اليقين .
قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) ( المائدة: 67 )
هناك من المسلمين مَنْ يعتبرون أيَّ احتفاء أو أيَّ اهتمام ، أو أيَّ حديث ، بالذكريات الإسلاميِّة أو بالهجرة النبوية أو بمولد الرسول – صلى الله عليه وسلم – أو بالإسراء والمعراج أو بغزوة بدر ، او بفتح مكة ، أو بأيِّ حدث من أحداث سيرة محمد – صلى الله عليه وسلم – بدعة في الدين ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، بحجة أنَّ في ذلك شبهة تقليد لأفعال المشركين ، وهو سُنَّة جاهليِّة يفعلها المجوس ، والنصارى ، واليهود ، ونحن مأمورون بمخالفتهم ، وهذا ليس بصحيح ، على إطلاقه ، إنّما الذي ننكره في هذه الأشياء ، الاحتفالات التي تخالطها المنكرات ، وتخالطها مخالفات شرعية ، وأشياء ما أنزل الله بها من سلطان .
ولكنْ إذا انتهزنا هذه الفرصة ، للتذكير بسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم – وبشخصية هذا النبي العظيم ، وبرسالته الخالدة التي جعلها الله رحمة للعالمين ، فأيُّ بدعة في ذلك ؟ وأي ضلالة وأي شبهةُ تقليدٍ لأفعالِ المشركين في ذلك ؟ ما هذا التشنج ؟!
إنَّنا حينما نتحدث عن هذه الأحداث الجِسَامِ ، نُذكِّر الناسَ بنعمةِ عظيمةٍ ، والتذكيرُ بالنعم مشروعٌ ومحمودٌ ومطلوبٌ ، وقد تساءل بالأمس أحد هؤلاءِ المنكرين لهذه النعمة - أحد العلماء – قائلا : الأصل في التهنئة تجددُ نعمةٍ ، أو رفعُ نقمةٍ ، فأيُّ نعمةٍ حصَلت بانتهاء العام الهجري ؟
وقد رددتُ عليه فقلت : لا أدري كيف يُقال مثلُ هذا الكلام ؟ والله سبحانه وتعالى أمرنا بذلك ، بل أمر مَنْ هو أفضلُ عند الله منَّا ، وهم الرعيلُ الأولُ من الصحابة الكرام ، فقال عَزَّ من قائل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا 0إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ).الأحزاب 9
يذكِّرُ بغزوةِ الخندقِ ، حينما أحاط المشركون بالمدينة إحاطة السِّوارِ بالمِعْصَمِ ، وأرادوا إبادة المسلمين واستئصال شأفتهم ، وأنقذهم الله من هذه الورطة ، يذكِّرهم الله بهذا – إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها – اذكُروا ، ولا تنسَوا هذه الأشياء ، معناها أنَّه يجب علينا أن نذكر هذه النعم ولا ننساها .
وفي هذا دليلٌ على أنَّ ذِكْرَ النعمة مطلوبٌ تذكُّرها ، وتذكيرُ المسلمين بهذه الأحداث ، وما فيها من عِبَر ، وما يُستخلصُ منها من دروس . فالأحداث التي وقعت في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – صمَّمها ربُنا عز وجل ، لنستنبط منها ، المواقفَ والعِبَرَ ، لتكون هذه الأحداث دروسًا خالدة إلى نهاية الحياة . بالله عليكم أيعاب علينا مثل هذا ؟ أيكون هذا بدعة وضلالة ؟
إنَّ الحديثَ عن مثل هذه الأحداثِ الجِسَام في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم – إنَّما تُمثِّلُ تجسيدا للأسوة المحمدية ، نحن مأمورون أنْ نتأسَّى برسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأن نتخذه مثلاً أعلى لنا ، فسيرتُه ليست كسيرة بعض النبيين ، يمكن أن يقتدي في موضع ولا يقتدي في موضع آخر ، فسيرته حافلةٌ جامعةٌ يستطيع كلُ إنسان أن يتخذ منها موضعا للقدوة .
فلماذا نَحْرِمُ أنفسنا من الحديث عن هذه الأسوة المحمدية ، والحديث عن الأسوة في وقتها هو أنسب وأوقع ، هذا ما تقوله القاعدة التربوية ( انتهز الفرصة لتربي التلميذ ، لتربي التابع ) تربط الفرصة والمناسبة بالمقصود التربوي والهدف التربوي ، إذاً من حقِّنا إن نتمثل هذه الأسوة قال تعالى : (لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً )
إخوتي وأخواتي : حاولوا أن تدرسوا سيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من ينابيعها الصافية من القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف ،ومن كتب السيرة ، حتى تعيشوا الحدث مع هذا الرسول الكريم ، وأنْ لا نتعاملَ معها كما لو أننا نتعامل مع بطل من الأبطال في القصص الشعبي ، تُحْكَى بقصد التسلية والمتعة وليست حديث ساعة وتنقضي ، كان يا ما كان في قديم الزمان على عهد النبي العدنان... أسأل الله أن يفقهنا في ديننا وأن ينير لنا طريقنا وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا ، والحمد لله رب العالمين .

Montaser1956@hotmail.com



تعليقات القراء

هندي رفيق
الى كريم كاتب:

جزاكي الله خيرا كتيرا وجعله في ميزان هسناتكي كما يكول اخوان مسلمان سيوخ
29-11-2011 08:40 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات