العشوائية والفردية في التعليم العالي : غاية أم وسيلة
بتعيين الدكتورة رويدا المعايطة وزيرة للتعليم العالي، تكون حملة "ذبحتونا" قد عاصرت خمسة وزراء للتعليم العالي في أقل من خمس سنوات وهو –على ما أعتقد- رقم قياسي على مستوى الأمم المتحدة، ويمكن تفسيره بأحد السببين التاليين:
1_ عدم معرفة الرئيس المكلف الكافية بالوزير المعني، ما يؤدي إلى إعفائه من منصبه مع أول تعديل وزاري.
2_ وصول الوزير إلى منصبه ليس لكفاءته وإنما لحسابات مناطقية وتقسيمات أحجام مراكز القوى في الفترة التي تم فيها تعيين الوزير، ما يؤدي إلى إعفائه من منصبه مع تبدّل أحجام هذه المراكز أو تغيير في الحسابات المناطقية لدى صاحب القرار.
عدم الاستقرار الإداري في الوزارة الأهم على المستوى الاستراتيجي بمصاحبة السرية في عمل الوزارة أديا إلى عشوائية وفردية وتخبط في أداء الوزارة. و كنت قد أشرت في مقال سابق إلى حجم السرية في التعليم العالي، وسأشرح في هذا المقال كيف أن هذه السرية كانت سبباً ونتيجةً - في آن واحد- لما آل إليه حال التعليم العالي، كما سأتطرق إلى ما أدت إليه العشوائية والفردية من تخبط وتضارب في سياسات الوزارة.
فالسرية تعني غياب الرقابة وترك المجال لتراكم الأخطاء وشعور المسؤول أو الهيئة بعدم وجود رقيب تجعلها تسرح وتمرح في قراراتها، إضافة إلى أن غياب النقد سواء من جهة الإعلام أو المراقبين أو المهتمين أو مؤسسات المجتمع المدني الناتج عن السرية وغياب المعلومة يؤدي بالضرورة إلى عدم قدرة الهيئة على تقييم أدائها بالشكل الصحيح ومعرفة أين أخطأت وأين أصابت. كل هذا يؤدي بالضرورة إلى جعل السرية سبباً رئيسياً لما وصل إليه الحال في التعليم العالي.
أما كون السرية نتيجة لسياسات التعليم العالي، فمرده لمعرفة صاحب القرار بأن سياسات التعليم العالي وأهدافها المتوسطة والبعيدة المدى لن تحظى بقبول لدى الشارع الطلابي والعام، بل إنها قد تؤدي إلى حدوث اضطرابات واحتجاجات قد لا تحمد عقباها خاصة في ظل الأزمة المالية التي يعانيها المواطن وانكسار حاجز الخوف لديه مع رياح الربيع العربي. لذلك ارتأى صاحب القرار الإبقاء على سرية توجهاته واتباع أسلوب "الخطوة خطوة" للوصول إلى أهدافه فيما يتعلق بالتعليم العالي.
وفي ظل السرية كان لابد من طغيان الفردية والمصالح الذاتية إضافة إلى العشوائية في اتخاذ القرارات. لذلك وفي وجود خمسة وزراء للتعليم العالي في أقل من خمس سنوات، كنا نجد تبايناً يصل حد التناقض في قرارات الوزراء المتعاقبين، بل إننا نستطيع القول أننا أمام حالة من التخبط والعشوائية- إذا كنا سنحسن النوايا-، أو حالة من الذاتية والمنافع الشخصية في حال أردنا أن نسيء النية. وفي كل الأحوال فقد كنا أمام قرارات متناقضة ورؤى متصارعة أدت إلى عدم القدرة على وجود بناء تراكمي في العمل ما أدى إلى الوصول بالتعليم العالي لمرحلة الموت السريري.
وحتى لا نبقى في إطار الكلام الإنشائي، سأضع أمام القارئ العزيز مثالين اثنين فقط على ما تحدثت عنه وهما غيض من فيض التناقضات في قرارات الوزراء المتعاقبين:
1_ البرنامج الموازي: كانت سياسة وزير التعليم العالي الأسبق خالد طوقان قائمة على أساس الغاء البرنامج الموازي في الجامعات الرسمية دفعة واحدة ورفع رسوم البرنامج العادي، ليأتي بعده عمر شديفات حيث بدأ برفع أعداد طلبة البرنامج الموازي بشكل تدريجي وصولاً إلى جامعات رسمية بأسعار قريبة من أسعار الجامعات الخاصة، ثم جاء وليد المعاني الذي بدأ بتقليص أعداد طلبة الموازي تدريجياً تمهيداً لإلغائه بالتوازي مع رفع الرسوم الجامعية على مصراعيه في الجامعات الرسمية، ومن ثم جاء وجيه عويس الذي كان ينوي العودة لفتح البرنامج الموازي على مصراعيه في محاولة لمحاكاة نموذج جامعة العلوم والتكنولوجيا التي كان يرأسها، إلا أنه وقبل أن يبدأ مشروعه تم استبداله برويدا المعايطة التي استلمت حقيبتها الوزارية قبل بضعة أيام.
2_ معدلات القبول في الجامعات الخاصة: بدأ خالد طوقان برفع معدل القبول في الجامعات الخاصة في محاولة لرفع مستوى الخريجين في هذه الجامعات، ليأتي عمر شديفات ويعمل على خفض هذه المعدلات بذريعة تشجيع " السياحة العلمية" الخليجية وتشجيع الطلبة الأردنيين عدم التوجه للخارج للدراسة. وجاء وليد المعاني ليعود عن قرار شديفات فبدأ بالرفع التدريجي لمعدلات القبول، وما إن استلم وجيه عويس مهامه حتى بادر بالعمل على خفض معدلات القبول في الجامعات الخاصة.
وهناك العشرات من الأمثلة التي تحتاج إلى مقالات لكشف حجم التخبط والتناقض في القرارات من وزير لآخر ليس آخرها ابتداءاً من بنك الطالب مروراً بالدعم الحكومي للجامعات وليس انتهاءاً بأخطرها على الإطلاق قانوني الجامعات الأردنية والتعليم العالي اللذان تم إعادة النظر فيهما لأكثر من مرة وبمضمون يتناقض مع سابقه.
هذا التناقض والتضارب والتخبط في توجهات وسياسات وقرارات الوزراء المتعاقبين أدى إلى عدم قدرة الجامعات الرسمية على وضع خطط مالية لها لأكثر من سنة واحدة وعجزها عن وضع استراتيجية مالية متوسطة وبعيدة المدى، كما كان الحال مشابهاً بالنسبة للجامعات الخاصة التي عانت الأمرين من التخبط في قرارات مجلس التعليم العالي حول معدلات القبول، أما مجلس التعليم العالي فقد كان أداة مطواعة في يد الوزراء المتعاقبين الذين قاموا ب"فك وتركيب" المجلس لمرات عديدة ما أدى إلى جعل أعضاء هذا المجلس أداة في يد الوزير المعين، ما شل قدرته على أن يكون لدى أعضائه قدرة على اتخاذ قرارات مستقلة في ظل هيمنة الوزير على هذا المجلس.
نعم التعليم العالي في حالة موت سريري كما ذكر الوزير الأسبق وليد المعاني، ونعم التعليم العالي هو عماد تطور أي أمة، ونعم نحتاج إلى العودة بسمعة جامعاتنا كما كانت في السابق، ولكن بالتأكيد لن يتم كل هذا من خلال السرية والتخبط والعشوائية والفردية، بل من خلال عمل مؤسسي يرتكز على أن التعليم ليس بطيخة والجامعات ليست "حسبة خضار"، وأن التعليم الجامعي هو استثمار وطني في الإنسان وهو واجب الدولة وفقاً للقوانين والمواثيق الدولية التي وقعت عليها الحكومة الأردنية.
إن عقد مؤتمر وطني يناقش سياسات وإستراتيجيات التعليم العالي ، والأهداف المرجوّة منه، من على قاعدة المصلحة الوطنية العليا ، وليس من على قاعدة الانصياع لإملاءات وشروط صندوق النقد والبنك الدوليين. إن عقد هكذا مؤتمر أصبح ضرورة قصوى لا تحتمل التأخير.
** فاخر دعاس
منسق حملة ذبحتونا
بتعيين الدكتورة رويدا المعايطة وزيرة للتعليم العالي، تكون حملة "ذبحتونا" قد عاصرت خمسة وزراء للتعليم العالي في أقل من خمس سنوات وهو –على ما أعتقد- رقم قياسي على مستوى الأمم المتحدة، ويمكن تفسيره بأحد السببين التاليين:
1_ عدم معرفة الرئيس المكلف الكافية بالوزير المعني، ما يؤدي إلى إعفائه من منصبه مع أول تعديل وزاري.
2_ وصول الوزير إلى منصبه ليس لكفاءته وإنما لحسابات مناطقية وتقسيمات أحجام مراكز القوى في الفترة التي تم فيها تعيين الوزير، ما يؤدي إلى إعفائه من منصبه مع تبدّل أحجام هذه المراكز أو تغيير في الحسابات المناطقية لدى صاحب القرار.
عدم الاستقرار الإداري في الوزارة الأهم على المستوى الاستراتيجي بمصاحبة السرية في عمل الوزارة أديا إلى عشوائية وفردية وتخبط في أداء الوزارة. و كنت قد أشرت في مقال سابق إلى حجم السرية في التعليم العالي، وسأشرح في هذا المقال كيف أن هذه السرية كانت سبباً ونتيجةً - في آن واحد- لما آل إليه حال التعليم العالي، كما سأتطرق إلى ما أدت إليه العشوائية والفردية من تخبط وتضارب في سياسات الوزارة.
فالسرية تعني غياب الرقابة وترك المجال لتراكم الأخطاء وشعور المسؤول أو الهيئة بعدم وجود رقيب تجعلها تسرح وتمرح في قراراتها، إضافة إلى أن غياب النقد سواء من جهة الإعلام أو المراقبين أو المهتمين أو مؤسسات المجتمع المدني الناتج عن السرية وغياب المعلومة يؤدي بالضرورة إلى عدم قدرة الهيئة على تقييم أدائها بالشكل الصحيح ومعرفة أين أخطأت وأين أصابت. كل هذا يؤدي بالضرورة إلى جعل السرية سبباً رئيسياً لما وصل إليه الحال في التعليم العالي.
أما كون السرية نتيجة لسياسات التعليم العالي، فمرده لمعرفة صاحب القرار بأن سياسات التعليم العالي وأهدافها المتوسطة والبعيدة المدى لن تحظى بقبول لدى الشارع الطلابي والعام، بل إنها قد تؤدي إلى حدوث اضطرابات واحتجاجات قد لا تحمد عقباها خاصة في ظل الأزمة المالية التي يعانيها المواطن وانكسار حاجز الخوف لديه مع رياح الربيع العربي. لذلك ارتأى صاحب القرار الإبقاء على سرية توجهاته واتباع أسلوب "الخطوة خطوة" للوصول إلى أهدافه فيما يتعلق بالتعليم العالي.
وفي ظل السرية كان لابد من طغيان الفردية والمصالح الذاتية إضافة إلى العشوائية في اتخاذ القرارات. لذلك وفي وجود خمسة وزراء للتعليم العالي في أقل من خمس سنوات، كنا نجد تبايناً يصل حد التناقض في قرارات الوزراء المتعاقبين، بل إننا نستطيع القول أننا أمام حالة من التخبط والعشوائية- إذا كنا سنحسن النوايا-، أو حالة من الذاتية والمنافع الشخصية في حال أردنا أن نسيء النية. وفي كل الأحوال فقد كنا أمام قرارات متناقضة ورؤى متصارعة أدت إلى عدم القدرة على وجود بناء تراكمي في العمل ما أدى إلى الوصول بالتعليم العالي لمرحلة الموت السريري.
وحتى لا نبقى في إطار الكلام الإنشائي، سأضع أمام القارئ العزيز مثالين اثنين فقط على ما تحدثت عنه وهما غيض من فيض التناقضات في قرارات الوزراء المتعاقبين:
1_ البرنامج الموازي: كانت سياسة وزير التعليم العالي الأسبق خالد طوقان قائمة على أساس الغاء البرنامج الموازي في الجامعات الرسمية دفعة واحدة ورفع رسوم البرنامج العادي، ليأتي بعده عمر شديفات حيث بدأ برفع أعداد طلبة البرنامج الموازي بشكل تدريجي وصولاً إلى جامعات رسمية بأسعار قريبة من أسعار الجامعات الخاصة، ثم جاء وليد المعاني الذي بدأ بتقليص أعداد طلبة الموازي تدريجياً تمهيداً لإلغائه بالتوازي مع رفع الرسوم الجامعية على مصراعيه في الجامعات الرسمية، ومن ثم جاء وجيه عويس الذي كان ينوي العودة لفتح البرنامج الموازي على مصراعيه في محاولة لمحاكاة نموذج جامعة العلوم والتكنولوجيا التي كان يرأسها، إلا أنه وقبل أن يبدأ مشروعه تم استبداله برويدا المعايطة التي استلمت حقيبتها الوزارية قبل بضعة أيام.
2_ معدلات القبول في الجامعات الخاصة: بدأ خالد طوقان برفع معدل القبول في الجامعات الخاصة في محاولة لرفع مستوى الخريجين في هذه الجامعات، ليأتي عمر شديفات ويعمل على خفض هذه المعدلات بذريعة تشجيع " السياحة العلمية" الخليجية وتشجيع الطلبة الأردنيين عدم التوجه للخارج للدراسة. وجاء وليد المعاني ليعود عن قرار شديفات فبدأ بالرفع التدريجي لمعدلات القبول، وما إن استلم وجيه عويس مهامه حتى بادر بالعمل على خفض معدلات القبول في الجامعات الخاصة.
وهناك العشرات من الأمثلة التي تحتاج إلى مقالات لكشف حجم التخبط والتناقض في القرارات من وزير لآخر ليس آخرها ابتداءاً من بنك الطالب مروراً بالدعم الحكومي للجامعات وليس انتهاءاً بأخطرها على الإطلاق قانوني الجامعات الأردنية والتعليم العالي اللذان تم إعادة النظر فيهما لأكثر من مرة وبمضمون يتناقض مع سابقه.
هذا التناقض والتضارب والتخبط في توجهات وسياسات وقرارات الوزراء المتعاقبين أدى إلى عدم قدرة الجامعات الرسمية على وضع خطط مالية لها لأكثر من سنة واحدة وعجزها عن وضع استراتيجية مالية متوسطة وبعيدة المدى، كما كان الحال مشابهاً بالنسبة للجامعات الخاصة التي عانت الأمرين من التخبط في قرارات مجلس التعليم العالي حول معدلات القبول، أما مجلس التعليم العالي فقد كان أداة مطواعة في يد الوزراء المتعاقبين الذين قاموا ب"فك وتركيب" المجلس لمرات عديدة ما أدى إلى جعل أعضاء هذا المجلس أداة في يد الوزير المعين، ما شل قدرته على أن يكون لدى أعضائه قدرة على اتخاذ قرارات مستقلة في ظل هيمنة الوزير على هذا المجلس.
نعم التعليم العالي في حالة موت سريري كما ذكر الوزير الأسبق وليد المعاني، ونعم التعليم العالي هو عماد تطور أي أمة، ونعم نحتاج إلى العودة بسمعة جامعاتنا كما كانت في السابق، ولكن بالتأكيد لن يتم كل هذا من خلال السرية والتخبط والعشوائية والفردية، بل من خلال عمل مؤسسي يرتكز على أن التعليم ليس بطيخة والجامعات ليست "حسبة خضار"، وأن التعليم الجامعي هو استثمار وطني في الإنسان وهو واجب الدولة وفقاً للقوانين والمواثيق الدولية التي وقعت عليها الحكومة الأردنية.
إن عقد مؤتمر وطني يناقش سياسات وإستراتيجيات التعليم العالي ، والأهداف المرجوّة منه، من على قاعدة المصلحة الوطنية العليا ، وليس من على قاعدة الانصياع لإملاءات وشروط صندوق النقد والبنك الدوليين. إن عقد هكذا مؤتمر أصبح ضرورة قصوى لا تحتمل التأخير.
** فاخر دعاس
منسق حملة ذبحتونا
تعليقات القراء
أكتب تعليقا
تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه. - يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع |
|
الاسم : | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : | |