الحرب بالوكالة .. خطأ مقصود


جراسا -

كنا نحسب أن العراقَ ترك فترة الحروبِ إلى غير رجعةٍ، وسَلك طريق التنمية والنهضة ومحاولة الإفاقة من أوقاتٍ عصيبة وحروبٍ أليمة عانى ويلاتها كثيرًا، عطَّلت مسيرته نحو البناء والازدهار وتحقيق رفاهية شعبه، بعدما عانى الأَمَرَّين من حرب الخليج الأولى التي استمرت قُرابة الثماني سنوات، وراح ضحيتها نحو مليون شخص، ناهيك بالخسائر التي بلغت 400 مليار دولار من الجانبين.

ولم يكد العراق يلتقط أنفاسه المُنسحبة عن آخرها من حربه الأولى، حتى دخل في دوّامة حرب الخليج الثانية، والتي كانت أقل أمدًا، لكنها وفي الوقت ذاته كانت الأوسع نطاقًا من حيث عدد الأطراف، والأشد بأسًا لكونها تحت المظلَّة الأُممية، إذ شنَّت قوات التحالف الدولي - المكوَّنة من 34 دولة - هجومها عليه، بعدما منحها مجلس الأمن الدولي تفويضًا لتحرير الكويت من قبضته وقتئذ.

في تسعينيات القرن الماضي، كان العراق قد أعاد ترتيب البيت من الداخل مرَّة أخرى، وبلغ به المطاف غاية ذُرْوته عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، وأصبح لاعبًا إقليميًا لا يُستهان به أو بنفوذه، ما أَزعج الغرب الذي أوقعه في أتون الصراعات من جديد حتى انتهى به الأمر في غياهب الحروب ومتاهاتها، في ظل غياب الحِكمة عن قادته الذين ابتلعوا طُعُم الغرب الخبيث، الذي كان سرطانًا استشرى في الوريد، وختامًا بالنكسة الكبرى عام 2003، عندما ذهب العراق ولم يعد كما كان قبل ذلك التاريخ؛ حيث تم تسريح جيشه الذي بلغ تعْداده أكثر من مليون نسمة بنهاية القرن العشرين، مع ضربات حلف الناتو له، وإسقاط بغداد الذي أحدث تصدُّعًا في المنطقة برمّتها، وبات شعب العراق بين نازحٍ ولاجئٍ ومكلوم.

إن الشاهدَ من سرد هذه الأحداث المُتعاقبة التي مرَّ بها بلدٌ عزيزٌ علينا، ورُقعة غالية من وطننا العربي العراق؛ هو إظهار حجم المِحن التي تعرَّض لها هذا البلد، وكم من السنوات قضاها تحت لهيب النيران لم تُستغل لمصلحة شعبه الذي يستحق أن ينعم بموارده الثريَّة، ويهنأ بمستوى معيشة يُكافئ ما كانت عليه الأجيال التي عاشت في كنفه من قبل، وقد كانت إمكانيات الدولة في السابق تعود لأبنائها، لا أن يتم دفعها فاتورة حربٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بسبب تهوُّر مَنْ حمل مسؤوليته دون أن يكون أهلًا لها.

لقد شهدت بلاد الرافدين، خلال السنوات القليلة الماضية، حالةً من الهدوء النِّسبي، بعد انسحاب القوات الأجنبية من العراق، ومن ثمَّ التخلُّص من تنظيم "داعش"، ولكننا لم نعلم بعد ما إذا كان ذلك - على ما يبدو - هو الهدوء الذي يسبق العاصفة، بعدما استيقظنا، صباح الثلثاء الماضي، على ضرباتٍ صاروخيةٍ استهدفت محافظة أربيل في إقليم كردستان العراق من قِبل الحرس الثوري الإيراني، الذي برَّر هجومه بأنه دفاعٌ عن سيادته، وحِمايةٌ لأمنه، وردٌّ على إسرائيل التي اتهمها بالضلوع في تفجيرات كرمان، منذ أيام، وراح ضحيتها نحو 400 شخصٍ بين قتيلٍ وجريح.

المُتابع لمُجريات الأمور عن قُرب، يُدرك بلا شك أنها مُبررات واهية لا تنطلي على طفلٍ صغير، وفي ميزان السياسة تُثير الضحك حتى الغثيان؛ لكون ما حدث واضحًا للكافة، وهو استباحة سيادة دولة عربيَّة شقيقة تنأى بنفسها عن الصراعات، وتُركِّز في إصلاح ما أفسده الماضي القريب، وهنا لا بد من عدم غض البصر عنها، وهي تطرق الأبواب المشروعة دفاعًا عن أمنها الذي استباحته إحدى دول الجوار.

وقد تبيَّن كَذب الافتراءات التي تم الحديث عنها، فالمنزل المُستهدف كان خاصًا برجل أعمالٍ بارز، وقد كان موجودًا فيه رفقة ضيوفه وقت تفجيره، وهو بيته الذي يقطنه منذ سنوات - كما أكَّدت ذلك جهات عراقية - وليس مقرًا لمركز تجسُّسٍ تابعٍ لتل أبيب - كما زعم مُنفِّذو الهجوم - كما أن الضحايا عراقيون وليس من بينهم حَملة جنسيات أجنبيَّة سوى المساعدة الفلبينيَّة، وهذا يُؤكِّد يقينًا أن القصف كان خطأً كبيرًا يستوجب الحِساب الدولي، والإقرار بالمسؤولية من قِبل المُتسبِّب فيه.

بالطبع انتفض العراق في طريق الدبلوماسيَّة والإجراءات الرسميَّة، وصعَّد من خطواته، بدايةً من استدعاء سفيره في طهران، وإبلاغ نظيره الإيراني احتجاجه واستنكاره، ولم ينتهِ الأمرُ عند هذا الحد، بل طَرقت بغداد باب الأمين العام للأمم المتحدة، ورئيس مجلس الأمن الدولي، وتقدَّمت بشكويين رسميتين، كما فعلت من قبل عندما تكرَّر الأمر فور اغتيال قاسم سليماني، القائد السابق في الحرس الثوري، لترد بلاده بقصف العراق.

والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا تم وضع العراق في جُملةٍ مُفيدةٍ وإقحامه في حربٍ لا تخصه ما دام - كما أعلن مُنفِّذ الهجوم الإرهابي - استهدافًا لبلدٍ آخر اسمه إسرائيل، بحسب قوله، ويعلم حدوده جيدًا وموقعه الجغرافي، وهو ليس عنه ببعيدٍ؟!.. وأقول متى نرى الحلقة الأخيرة من هذا المسلسل الذي بات محفوظًا دون إبداعٍ حتى في كتابة السيناريو؟ وألم يكتفِ البلدان بالمبارزة التي كانت بينهما في ثمانينيات القرن الماضي وكانت خسائرها جَمَّة في الأموال والأرواح؟

إن المنطقة باتت في وضعٍ لا تُحسد عليه، وفي ظل غياب الحِكمة والعقل وتجاهل المُؤامرات التي تُحاك ضدها لتقويض أمنها واستقرارها؛ فإنها ستبقى أمدًا بعيدًا في نفقٍ مُظلمٍ من الحروب غير معلومة نهايته، ولن ينجو منها أحدٌ، فالخطرُ يُطوِّق الجميع، ولا يظن أحدٌ أنه في مأمنٍ من نارها، فلن ينفعه الارتماء في أحضان الغرب، أو بيع نفسه لتنفيذ أجنداتٍ لا غاية لها سوى تدمير الأخضر واليابس بغرض نهب الثروات التي شارفت على الانتهاء بفعل مُخططٍ مستمر منذ قرون عدة من الزمان.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات