2،3 مليون ناطق رسمي!


جراسا -

أمهات يزغردن فرحاً باستشهاد أبنائهن، وآباء يجلسون للتدخين بلا مبالاة، رافعين راية النصر فوق أنقاض منازل كانوا قد عمّروها بأيديهم، وأطفال "يشاغبون" الاحتلال ويعلنونها بالفم الملآن، "لن ننزح إلى الجنوب"، وعجائز يذخرن ما قد يكون دعاءهن الأخير في الدنيا من أجل رجال المقاومة.

هذه هي المشاهد الوحيدة التي قرّرنا - ولا أدري من نكون أصلاً لنقرّر - أنّها يجب أن تُنقل من الحرب على غزة. لقد قرّرنا - بالنيابة عنهم، ومن دون أن نكلّفهم عناء التفكير والاختيار - بأنّ كل مواطن في القطاع، والبالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، يجب أن يتحوّل إلى ناطق رسمي مفوّه باسم النضال والصمود.

حمّلناهم – هؤلاء المدنيين المغلوبين على أمرهم - مسؤولية "تمثيل" القضية الفلسطينية، والتحدّث باسمها، وتعزيز موقفها، ودحض الشبهات والبروباغندا الصهيونية حول غزة.

فيُمنع على الغزاوي - والذي ربما ترك جثث أشقائه لتتفسخ في الشارع - أن يُبدي انهزامية، أو انكساراً. يُحرم عليه البكاء من التعب أمام مراسلي القنوات، والاستسلام في لحظة من الضعف، حتى وإن كان قد التقط للتو جسد رضيع مفصول الرأس. لا يُسمح لهذا "الناطق الرسمي" بأن يشكو ضريبة المقاومة، والتي تخرج من رصيده من الأهل والأمن والاستقرار والمأوى والطعام، أو يتذمّر من اضطراره اللانهائي إلى التضحية. نزايد عليه حين يضجر، وحين ييأس، وحتى حين يردّد قول مريم بنت عمران "يا ليتني متُّ قبل هذا وكنتُ نَسِيّاً مَنسيّاً"، فالغزاوي - الذي قرّرنا أنّه يجب أن يظل شجاعاً - لا يخوّل تمني الموت إلاّ شهيداً.

لا يجوز للغزاوي - والذي عاصر 5 حروب لو أنّه في عمر الـ18 سنة - أن يلعن "حماس"، واليوم الذي عرف فيه "حماس"، في لحظة من السخط، مثل العائلة التي صوّرها الصحافي الغزاوي معتز عزايزة، فلاقى سيلاً من الهجوم والانتقاد من المتفذلكين والمتنطعين العرب.

فقد قرّرنا أنّ أي وجهة نظر لا تقف بصرامة مع المقاومة، ولا تتجلّد أمام الوضع الحالي، هي إنما تخدم السردية الإسرائيلية، والتي تلوم "حماس" حصراً على ما تقاسيه غزة من ويلات، وتزعم أنّ معاناة القطاع هي نتيجة لهجمات الـ7 من تشرين الأول (أكتوبر)، متناسية ما سبقها من حصار وتضييق.

ولأنّ جميع سكان غزة أصبحوا ناطقين رسميين رغماً عن أنوفهم، فها نحن نكاد نقطع ألسنتهم، ونحطّم أقلامهم، ونطمس عدسات الكاميرات عنهم، لنمنع وجهات النظر المغايرة بينهم. وأي جهة إعلامية، أو مؤثر في وسائل التواصل الاجتماعي، يلتفت إليها، ويلقمّها الميكروفون لتفضفض وتبث عذاباتها، فسنقحمه تلقائياً في زنزانة "المنافقين والمرجفين والمتصهينين"!

سمعت أنّ الحرب تصيّر البشر إحصائيات وأرقاماً منزوعة الصفة الإنسانية، ولكني بتّ أرى كيف أنّها تذوّبهم أيضاً في بوتقة واحدة لا وجوه فيها. فالرأي يجب أن يكون واحداً، والصوت واحداً، والمشاعر واحدة، وردود الفعل واحدة، وحتى القدرة على تحمّل أهوال القيامة التي تشهدها غزة يجب أن تكون واحدة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات