رحلة لبنانيّة في "موطن الأجداد"


جراسا -

"لبنان كل عمرو رزيل يا عم"، خلاصة قدّمها الثمانيني لبيب أبو زيد الذي هاجر الى استراليا قبل ثلاث وستين سنة، بعد سماعه، في جلسة جامعة، شاب عشريني يهاجم، بغضب شديد، الطبقة السياسية اللبنانيّة الحاليّة التي حمّلها مسؤوليّة انضمامه حديثًا الى فئة المهاجرين.

المهاجر الثمانينين مثله مثل المهاجر العشريني يتعاطيان مع اضطرارهما الى مغادرة لبنان، لأسباب متشابهة على رغم هوّة العقود التي تفصل بينهما، كأنّه "انسلاخ فرضي"، وهما، وإن كانا مرتاحين الى النتائج الإقتصاديّة الإيجابيّة التي تمكنا من الحصول عليها في استراليا بعدما كانا يتصارعان مع خط الفقر في لبنان، إلّا أنّ شيئًا مشتركًا يبدو أنّه قد اغتيل فيهما ولا يقويان على الإعتياد عليه: العاطفة المجتمعيّة!

في أوستراليا كما في غالبيّة دول الإغتراب يفتقد كثير من الجيل الأوّل الى الزخم الإجتماعي الذي ترعرعوا في ظله، لدرجة أنّ كثيرًا من العادات والتقاليد التي لفظت أنفاسها في لبنان، تراها حيّة تُرزق في موائدهم ومنازلهم وأدبياتهم.

ولم يتمكن هؤلاء الذين باتت تفصل بينهم وبين وطنهم الأم رحلة مطاريّة تستغرق 24 ساعة، من تجاوز هذا الحرمان سوى باستدعاء من يحبّون ومن بهم يرغبون، كلّما أطلّ "الرذيل" ببراثنه، الى المدن الأستراليّة التي يعيشون فيها، حتى يشكلّوا، بالممكن، تجمّعًا عائليًّا يعيشون فيه، فيعوّض عليهم شيئًا ممّا خسروه في لبنان.

ولكنّ هذا الشوق الدائم الى لبنان الذي يعاني منه الجيل الأوّل يخف تدريجيًّا مع الجيل الثاني ويكاد يختفي مع الجيل الثالث بالتزامن مع خسارة الإلمام بلغة الوطن الأصلي.

الفارق بين الجيل الثاني والثالث كبير يكمن، ربّما، في أنّ أبناء الجيل الأوّل تأثّروا بتعلّق آبائهم بلبنان ولكن، بفعل انشغال هؤلاء في أعمالهم، لا يعرفون قصص المعاناة الحقيقيّة، في حين أن الجيل الثالث الذي يمضي وقتًا نوعيًّا مع الجيل الأوّل بفعل تقاعده، يسمع منهم، وهم يحترقون على فقدان لبنان، القصص "الرذيلة" التي اضطرتهم الى ركب مراكب المغامرة الى أرض بعيدة جدًّا ومجهولة كثيرًا، ممّا يمكن أن يكون قد أوجد هوّة عاطفية عميقة تفصل بينهم وبين وطن "آلام أجدادهم" والوطن الذي ولدوا فيه واندمجوا به ونطقوا بلغته التي أصبحت "لغة الولادة"!

ولهذا السبب، على الرغم من أنّ أرقام المهاجرين الذين تعود أصولهم الى لبنان ضخمة للغاية، إلّا أنّ أعداد هؤلاء الذين يجاهرون بانتمائهم الى لبنان ويفكّرون به ويزورونه، متدنيّة جدًّا، إذا ما تمّ تفعيل قواعد المقارنة!

وليس في طريقة تعاطي لبنان مع مغتربيه ما يمكن أن يلغي اللجوء الى "نعمة النسيان"، فالمهمات التي ينتدب المسؤولون أنفسهم لها والخاصة بدول الإغتراب لا تقوم إلّا على "الشحادة" وبأحسن الأحوال على نقل الخلافات التي تعيق خلاص لبنان، الى المغتربين أنفسهم في محاولة منهم لتحويلهم الى وقود في معارك لا ناقة لهم بها ولا جمل!

ولا ينقذ التعلّق بلبنان لدى الجيل الأوّل سوى الشوق الدائم الى "الحرارة المجتمعية" التي لا علاقة للطبقة السياسيّة بها على الإطلاق، ولا استعداد الجيل الثاني على القيام بزيارة تعارف الى لبنان إلّا النشاط الذي لا يزال القطاع الخاص قادرًا على رعاية صموده.

ولا يمكن المراهنة على جمال الطبيعة في الترويج للبنان بين أصحاب الأصول اللبنانية، لأنّ استراليا ليست رائدة في "هبة الله" بل في التدخل الإنساني حيث النظام والنظافة والرعاية والأمان.

ثمّة شيء يمكنه أن يقلب الصورة لمصلحة لبنان، وهو أن تنتهي "الرذالة" من النهب والتشويه والتفقير وتأتي عقليّة جديدة تجعل جميع من اضطر يومًا إلى أن يهاجر فخورًا بأنّ أصوله لبنانيّة!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات