عن لبنان وصورته التي شوّهها أهله حكومةً وشعباً


جراسا -

ساهم القضاء المهتزّة أركانه في لبنان في إعدام العدالة مع مرور الزمن، هو قضاءٌ مدجّج بساعات من "رولكس"، هذه الساعة التي تبلغ قيمتها المادية ما تبلغ، لم تتمكن من تعديل نظرة اللبنانيين إلى الوقت…

في لبنان لنا نظرتنا الخاصة إلى الوقت، نظرةٌ فيها الكثير من ضياع الوقت.
محاكم لبنان غير شرعيّة، محاكم بأصوات مرتفعة إلّا في نشر العدالة، يتنافس على تهديم هيبتها "وُجهاء" إعلام وساسة، كلٌ قابعٌ في ركنه الخاص في مقاهي بيروت أم الشرائع، في الأحاديث تداولٌ بين السلطات من لون واحد بصوت خافت، مضمونه ما ستؤول إليه الأمور، تداولٌ لا يشبه مراد مونتسكيو من مبدأ فصل السلطات، في الجلسات إسراف في الكرم حتى الإفلاس.

وحدها الشرائع والقوانين قابعة في أروقة قصور العدل بإشراف حفنة من قضاة، دفعت بهم مناقبيتهم مع كلّ صباح إلى ارتياد مكان خدمتهم.

وحدها ملفات اللبنانيين قابعة في الإدارات العامة، ربّما أُقفلت بقوة القانون لمرور الزمن.

اجتهدت في التجوال بين أروقة النيابات العامة في ألمانيا وفي زوايا أقسامها "المستقلة" محاولةً الانضمام المتطرف إلى ثقافة العدالة لأشتَمّ مطيّباتها، ولكي أعزّز مفهوم الحرية في داخلي، وجدتُني في نهاية المطاف أنفّذ ما تمليه عليّ الذات البشريّة: مرّة محصّنة بالعدالة ومرّة منتهكة للحريّة.
اليوم تغيّرت معايير العدالة على ما يبدو، ليس فقط في لبنان بل في العالم أجمع.

حتى في بلاد الحريات لا تخلو التجارب من مآزق تحفّز القدرة على اختلاق حلول كما أنّها لا تخلو من الفساد، لكنها تصطدم بوجود مؤسسات دولة يحكمها القانون لا دولة قانون فحسب. كما أن العمل البيروقراطي البحت الذي يسيطر على الإدارات العامة في ألمانيا يساهم مساهمةً كبيرةً في مكافحة الفساد.

يفتقد لبنان كواليس داخلية محصّنة: غالباً ما يؤدي اختلاف وجهات النظر بين الأطراف إلى الشتم أو العنف الجسدي واللفظي، هذا أمر معروف حتى داخل برلمانات أكثر دول العالم تحضّراً، لكن في لبنان تداعيات الاختلاف تأتي على شاكلة أخطر بكثير… في لبنان استسهال في التشهير…

مع مطالعة تطبيق هذه التجارب عن كثب ومقاربة أسباب قصور العدل المؤلم في تفاصيله يُمكن استخلاص ما يأتي:

صدّر لبنان الثقافة القانونية الشاملة من دستوريين واختصاصيين وإداريين وقضاة شرفاء متشبّثين بالبحث عن الحقيقة، تُرفع لهم القبّعة، سواء كانوا قريبين أم بعيدين من الخيارات السياسية، كُثُر منهم مقبلون على تحديث قدراتهم متى رفع الغطاء السياسي، ومنهم من قضى في سبيل ما آمن به.

لا يمرّ النص القانوني في أروقة قصر العدل في ألمانيا ذات البنية الفدرالية قبل خضوعه لهيئة مختصّة بالنظر في القوانين المستحدثة تشبه مجلس الدولة في فرنسا، علاوة على ذلك، يخضع المشرّعون دائماً، وأحياناً كثيرة من تلقاء أنفسهم، لدورات تمكّنهم من تطوير الصياغة التشريعية. يفتقد لبنان مثل هذه المبادرات.

يضيع توزيع المسؤوليات في لبنان بين المشرّع والمنفّذ؛ ليت قواميس القانون، بما فيها من مصطلحات لغوية تزخر بالمعاني الإنسانية السامية وتلفظ ما يجافي الأخوّة والسلام وتهدم الجدران الإسمنتية التي تتصدى لأحلام عذراء في بناء جسور بين اللبنانيين.

تصاغ الكثير من النصوص برذاذ الطائفية المقيتة، تشوبها التبعية لا المبدأ، بعيدةً من التجربة الديموقراطية الحَقّة، منسوجة على قياس جماعات وعلى الطلب، والكفّ لا تُرَدّ خالية لو اقترب القاضي من السياسي بحسب رغبة الأخير.

الأزمة في لبنان لم تعُد أزمة ماديّة، هي أزمة أيديولوجية، من تبعاتها افتقاد قادة حقيقيين يتوزعون بين السلطات الأربع، هم أشخاص فُرادى، فقدوا مكانتهم الحقيقية حيث يجب أن يكونوا جرّاء عدم قربهم من "مكوّنات العيش المشترك" كما تشاء هذه المكونات.

إن صورة لبنان الحقيقية في الخارج لم تعد جذابة كما نظنّ نحن الللبنانيين، هذه الحقيقة لن يتقبّلها اللبنانيون الذين يعيشيون اللحظة الأبدية في كل يوم. كيف يجهل الشعب أنه مصدر السلطات وأنه المسؤول الأول عمّا يحدث وكيف به يقبل الهوان ويسمح للفاسدين بالاستخفاف بطاقاته.

في أحاديث الصالونات تعطّش لتحقيق حرّيات العالم أجمع والأعصاب مشدودة على أدقّ إيقاع، إلّا في ما يختصّ بالشؤون الداخلية اليومية:
"في وقت"… في منتجعات لبنان وعلى شواطئه لباسٌ إلزامي موحّد أو ما يُعرف بـ dresscode لزوم المشهد السياحي، على المقلب الآخر ما زال أفراد يعيشون ضمن مجتمعات معينة، مُلزمين بتقديم شرح حول علاقة اللباس والأحوال الجوية في ما بينهم.
شكل الحياة الذي تغذّيه لغة الطائفية المقيتة في لبنان لن يُنتج أخلاقيات مجتمعية مختلفة في نتائجها، وما لا نستطيع التحدث عنه لن نسمع به يوماً.
لا بل إن الأسلاك الشائكة تزداد سماكةً مع مرور الوقت، لكنها جعلت من الأزمة الداخلية "مجرد مشكلة".

يمرّ لبنان بشلل تاريخي نتج من التزامن بين ظواهر متعارضة، لا بل عن التفاعل في ما بينها: التعصب الديني والمجتمعي، هياكل الفدرالية الموعودة، غياب القواعد الإدارية، الدوافع المَرَضية، كل ذلك واللبنانيون مقتنعون بأنهم يعيشون تحت مسمّى الشراكة.

لا يمكن التحدّث عن السلام في المحافل الدولية والاستمرار في إنتاج السلاح، بذلك لا ينبغي أن نتفاجأ بأنه في مرحلة ما سيتم استخدام هذا السلاح في إطلاق النار.

في لبنان تعطّش لجمع المال بشتّى الوسائل، تبدأ بتأشيرة دخول "مش عارف حالك مع مين عم تحكي" مروراً بختمٍ من رجل أمنٍ رأى دمعة وحيدة تنساب في اللحظة الأخيرة من زاوية عينيّ مع مغادرتي، صاح بصوت جهوري تظاهر بأنّه غاضب، غير مكترث كما لو كانت تعزية عابرة من غريب طيّب، "حي الحارة؟" أجبته بنعم… حيلة كبار لكي يوفّر عليّ وداعاً مؤلماً، نعم كبار هم الذين أثبتوا مواطنتهم على الرغم من ظروفهم الصعبة. في لبنان في كل يوم يشتري مواطنٌ مواطناً آخر، وفي كل لحظة يضطر الفقير لبيع نفسه وكرامته.

نسي من أطلق عبارة "كلن يعني كلن" في لبنان إضافة "كلن يعني كلن حكومةً وشعباً".



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات