جنين تتحدّى الغطرسة مجدّداً وإسرائيل تحصد الخيبة


جراسا -

في نيسان (أبريل) من العام 2002 نفّذت القوات الإسرائيلية عدواناً على مخيم جنين الفلسطيني شمال الضفة الغربية، وحاولت تجريف المخيم بكامله، ومحوه من الوجود، لكنها فشلت بعد صمودٍ أسطوري للأهالي فيه. والعدوان حينها خلّف أضراراً وضحايا كبيرة وسقط من جرائه 497 شهيداً فلسطينياً، وتمَّ تدمير 878 منزلاً، واستنكره العالم بأسره، وتمَّ تشكيل لجنة تقصّي حقائق دولية، لكن الضغوط حالت دون إكمال عملها، كي لا تُحال جرائم المرتكبين من قوات الاحتلال على محكمة الجنايات الدولية، واستُعيض عن الأمر بتقرير رفعه الأمين العام للأمم المتحدة، أكّد واقعة العدوان، والانتهاكات التي تقوم بها قوات الاحتلال للقوانين الإنسانية الدولية.

أعادت القوات الإسرائيلية الكرّة بعد ما يزيد عن 20 عاماً، بإقدامها على مهاجمة مدينة جنين ومخيمها، بواسطة الجرافات والآليات العسكرية، وحجَّتها أنّ مخيّم جنين يؤوي ناشطين فلسطينيين يقومون بعمليات ضدّ المستوطنين. لكن حجم العدوان ونوعية الأسلحة المُستخدمة فيه هذه المرة؛ تؤكّد نوايا إسرائيلية بالتخلُّص من مخيم جنين بالكامل، نظراً لموقعه الاستراتيجي شمال الضفة الغربية، ولأنّه مقرّ سكن مجموعات فلسطينية ناشطة، غالبيتهم من حركة "فتح" التي يتزعمها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.

أعمال العدوان الإسرائيلية التي بدأت مطلع تموز (يوليو) الجاري، خلّفت أكثر من 50 ضحية بين شهيدٍ وجريح، وجرفت منازل وممتلكات، وهي لاقت استنكاراً عربياً ودولياً واسعاً، كونها تخرق القوانين الدولية التي تفرض على المُحتل حماية المدنيين العُزّل، لاسيما منها ما جاء في اتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949، كما أنّ أعمال قوات الاحتلال تتعارض مع اتفاق أوسلو 1994 الذي تمَّ توقيعه بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. والرئيس محمود عباس أشار إلى هذه الواقعة، وأعلن عن قطع كل التواصل مع إسرائيل إلى حين وقف أعمالها الحربية بالكامل.

الذرائع الإسرائيلية التي تبرّر العدوان ليست منطقية، ولم يكن هناك أي سبب يعطي مشروعية لهذه العملية الإجرامية على الإطلاق، والحجج التي ساقتها إسرائيل حول حماية أمن المستوطنين الذين يتعرّضون للمضايقة؛ لا تتمتع بأي أحقية، وهي لا تبرّر شنّ مثل هذا العدوان، بينما القوانين التي تفرض حماية هؤلاء المستوطنين والتي أقرّها الكنيست أخيراً، لا تراعِي المعايير الدولية، ولا الحق الإنساني، وكان يتوجب على إسرائيل ردع اعتداءات المستوطنين الغاصبين، وليس الاقتصاص من السكان الأصليين الذين يدافعون عن حقّهم بالحياة، وعن أراضيهم التي تتعرّض للقضم.

لا يمكن لإسرائيل أن تفرض حلاً أمنياً للنزاع الوجودي مع الفلسطينيين على الإطلاق، وهي جرَّبت سابقاً، وتكرّر التجارب الفاشلة من جديد، ولن تحصد سوى الخيبة والهزيمة، ذلك أنّ إرادة الشعب الفلسطيني قوية، وهو متشبث بأرضه وبحقّه، ولن تقوى على هذه الإرادة أية أعمال عدوانية. وحلّ الأزمة يأتي فقط من خلال التفاوض، وفي إعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة وإقامة دولتهم المستقلّة وعاصمتها القدس الشرقية، وفقاً لبنود المبادرة العربية التي أقرّتها قمة بيروت للعام 2002.

إنّ السبب الذي يقف وراء التوتر القائم؛ هو القرارات التي تتخذها إسرائيل، خصوصاً منها التشريعات الأخيرة التي تفرض مصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية لأسباب واهية، وليست أعمال الناشطين الفلسطينيين كما تدّعي إسرائيل، وهؤلاء يدافعون عن حقوقهم وأمنهم باللحم الحي.

الفلسطينيون أصحاب حق؛ لن يسكتوا عن ضياع حقّهم بممارسات ظاهرها "قانوني" ومضمونها يخفي نوايا واضحة بقضم الأراضي، وبتشديد الحصار على الشباب الفلسطيني لدفعه إلى الهجرة خارج بلده، لإحلال مستوطنين جُدُد مكانه. ومخيم جنين الذي أُنشئ عام 1953 إلى الغرب من المدينة، يسكن فيه فلسطينيون طُردوا من مدنهم وبلداتهم داخل فلسطين، وهم يعيشون بحالة فقرٍ وعوَز وبؤسٍ لا مثيل لها، وليس لديهم خيار معيشي آخر، لأنّهم لا يستطيعون العودة إلى اماكن سكنهم الأساسية التي طُردوا منها في زمن النكبة قبل ما يزيد عن 75 عاماً.

لقد تجاوز العدوان الإسرائيلي على جنين كل الحدود، واستُخدمت فيه أحدث آلات القتل والدمار ضدّ المواطنين العُزّل. كما أنّ الوضع الإنساني الناجم عن شدّة القصف والحصار لا يُطاق. وقد أكّدت منسّقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية لين هاستينغز، على وحشية العدوان، عندما طالبت قوات الاحتلال قبل توقّف القصف، بتأمين ممرات آمنة لطواقم الإسعاف التي كانت مُحاصرة، وبرفع الحصار الغذائي والمائي الذي فرضته قوات الاحتلال على سكان المخيم، وإسرائيل بفعلتها هذه تجاوزت كل قرارات مجلس الأمن والمواثيق الدولية ذات الصلة.

تبدو الأزمة السياسية الداخلية في إسرائيل من العوامل المؤثّرة في الأحداث الأخيرة التي حصلت في جنين وفي غيرها من الأماكن، ذلك أنّ حكومة نتنياهو تركض إلى الأمام في سياق السباق والمزايدة في توفير مقوّمات الأمن للمستوطنين، لكن ذلك لن ينفع، وهي مقاربة فاشلة ستُعيد تكرار التجارب السابقة، والتي فشلت في تحقيق الإستقرار. وحدها مقاربة وقف العدوان والإقرار بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني تؤدي إلى السلام.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات