مستقبل العملة الخضراء في العالم على المحك!


جراسا -

بدأ الاحتياطي الفدرالي الأميركي في الاول من آذار (مارس) 2022، رحلة إلى معدّلات فائدة أعلى، بما يكفي لوضع حدّ للتضخّم العنيد. الزيادة في معدّل الفائدة كانت الأسرع منذ الثمانينات من القرن الماضي. توقّع المراقبون أن تتأثر أسعار أدوات الدين المالية بهذا المسار التصاعدي بمعدل الفائدة الأساس، وإيلاء هذا التغيير الاهتمام المطلوب. ورغم ذلك، تمّ التغاضي عنه من قِبل الإدارة التنفيذية لبنك سيليكون فالي. فيما لجأ البعض إلى التهرّب من المسؤولية، لأنّ السرعة التي حصلت فيها هذه التعديلات صعوداً في نسبة الفائدة الأساسية، لم تكن ضمن التوقعات. ومن هنا جاءت الصدمة السلبية التي تسبّبت بإحداث إضطرابات في القطاع المصرفي الأميركي، انطلاقاً مما حدث في مصرف سيليكون فالي (SVB) وما تبعه من انهيارات (سيغننشر بنك، سيلفيرغايت بنك، فيرست ريبابليك بنك...).



ولكن، حتى مع هبوط الأسواق المالية، ظلّ النظام المالي العالمي خارج دائرة الركام. أصاب الإنهيار الأبرز في ذلك الوقت شركة FTX، وهي بورصة عملات مشفّرة سابقة، تعمل خارج الإطار المصرفي والمالي، وقد أجمع المراقبون على أنّ سبب انهيارها هو الاحتيال وليس الإحتياطي الفدرالي الأميركي! ولكن هذا لا يلغي أهمية ما حصل في القطاع المصرفي.

أدّى فشل سيليكون فالي بنك (SVB)، وهو بنك أميركي متوسط المستوى، في العاشر من آذار (مارس) 2023، إلى حدوث موجة من الصدمات في الأسواق المالية. SVB هو ليس مؤسسه مصرفية نموذجية، إذ إنّ حوالى 90% من ودائعه كانت خارج السقف المُعتمد من قِبل المؤسسة الفدرالية لضمان الودائع FDIC (250 ألف دولار)، ما يجعل من زبائن هذا المصرف "لاعبين رئيسيين" وليسوا مودعين عاديين. وهذا يعني أنّ إدارة الرئيس جو بايدن والفدرالي سارعا، في الواقع، إلى حماية اللاعبين وليس المودع العادي!.

كان الاحتياطي الفدرالي يعلم أنّ حماية المودعين لن تكفي لتبديد المخاوف من انتشار عدوى سقوط المصرف، لتطال مصارف أخرى وتتحوّل من أزمة مصرف واحد إلى أزمة قطاع بكامله. لذلك، كان على الفدرالي التصرّف بسرعة وبحزم لتجاوز التشنّجات ووقف الاهتزازات التي لوحظت في أسهم البنوك الأخرى، والتي شعر المستثمرون بالقلق من إحتمال تعرّضها لنقاط ضعف مماثلة. استطاع الاحتياطي الفدرالي حصر المشكلة بمصرف واحد، وإن توسّعت لن تتعدّى المؤسسات المالية التي لها ملف تعريف تجاري مشابه لملف SVB، وبهذا يكون قد حدّ من عدوى الإنتشار الكارثي!

لم يكد يستتب الإستقرار في الربوع المصرفية حتى حطّ الجدل مجدداً حول رفع سقف الإستدانة كـ"ضيف غير مرحّب به" من قِبل الاحتياطي الفدرالي. الكل كان يعلم سقف وحدود هذا الجدل، ولم تكن المرّة الأولى، إنما المرّة 123 في تاريخ الكونغرس الأميركي. للأسف هذا الجدل والتناحر السياسي بين الجمهوريين والديموقراطيين بشأن رفع سقف الدين العام، كان له تداعياته السلبية على حرّية الحركة لدى السلطات النقدية، إذ ارتفع الصوت الداعي إلى التخلّي عن الدولار الأميركي كخيار المصارف المركزية الأول في تأمين إحتياطاتها بالعملة الأجنبية.

هذه التطورات حدثت في ظلّ بيئة اقتصادية تعاني من نِسَب تضخّم جد عالية، ومحاولات من إدارة الرئيس بايدن لإحداث تعديل جذري في خريطة الطريق التي رسمها الإحتياطي الفدرالي لمحاربة التضخّم (الطبقة السياسية تحاول حضّ الفدرالي للتريث والتوقف عن رفع الفائدة الأساسية، وهو لا يقبل أي خيار آخر غير رفع الفائدة للحدّ من الضغوط التضخمية). ورغم هذه المتغيّرات والصدمات السلبية المتتالية، حافظ الدولار الأميركي على مكانته "ملك الملوك" في أسواق العملات العالمية، ليس لسبب إلاّ لاكتسابه ثقة الوكلاء الاقتصاديين.

يمرّ الدولار الأميركي بأيام جيدة وأخرى سيّئة، لكنه كان دائماً الفائز الأكبر في حركة التجارة العالمية وخيارات المصارف المركزية لجهة الاحتياطي في العملات الأجنبية، وسعي المواطنين في الأنظمة المالية المتعثرة للحصول على الدولار كبديل آمن لعملتهم المحلية. ولم تتردّد المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، في تصحيح التوقعات عن مستقبل العملة الخضراء، وقالت في كلمة لها يوم الأربعاء في 24 أيار (مايو) 2023، في منتدى قطر الاقتصادي في الدوحة الذي نظّمته "بلومبرغ (Bloomberg) ، إنّها لا تتوقّع حدوث تحوّل سريع في إحتياطيات الدولار الأميركي. ورداً على سؤال عن إزالة الدولرة من العالم، قالت: "لا نتوقع تحوّلاً سريعاً في الاحتياطيات، لأنّ سبب كون الدولار عملة احتياطية يرجع إلى قوة الاقتصاد الأميركي وعمق أسواق رأس المال فيه، والثقة المميزة الذي يستحقها صانعو السياسة النقدية".

بغض النظر عن حجم الاقتصاد أو قوة الدولة، كان لا بدّ من التوقف عند أداء الإحتياطي الفدرالي، لنأخذ الدروس من استقلاليته عن الطبقة السياسية، وفعاليته في اتخاذ القرارات، مع التأكيد على أنّ القاسم المشترك بين الولايات المتحدة الأميركية والدول الأخرى، هو أنّ رئاسة الجمهورية هي الجهة التي تختار حاكم المصرف المركزي. إستقلالية المصارف المركزية بأهمية موقع رئاسة الجمهورية في كل بلد.



تجارب دولية فاشلة
تركيا دولة كبيرة وذات نفوذ اقتصادي وعسكري، ولكن تجربتها في إدارة ملف السلطة النقدية كانت فاشلة. ومن الخطأ تحميل عبء هذا الفشل فقط لأداء محافظ المصرف المركزي. لذا ينبغي عدم الإفراط بالتحدث عن إيجابيات التعيينات الجديدة في السلطة النقدية في تركيا. فإيجابيات تعيين حفيظة أركان، محافظ المصرف المركزي التركي الجديد، هو أنّها امرأه ولكن:

1- إنّها المحافظ الخامس خلال أربع سنوات. ومن سبقها إما أُقيل من الخدمة بقرار من الرئيس التركي، أو، هنا الأخطر، تمّ ترويضه للإمتثال لتوجيهات السلطة السياسية.

2- أبقى الرئيس رجب طيب أردوغان، المحافظ السابق للمركزي في قلب السلطة النقدية، وعيّنه في موقع رئيس هيئة الرقابة على البنوك، ونقل وزير الاقتصاد ليصبح وزيراً للمالية ومديراً للخزينة، وكل ذلك ‏لمحاصرة المحافظ الجديد للمركزي وتقييده، خصوصاً في الاجتماع المقرّر في 22 حزيران (يونيو) الجاري، لاتخاذ قرار مصيري بشأن الفائدة الأساسية: هل يرفعها المركزي أو يبقيها على معدّلاتها أو يخفّضها بعد أن تمّ تعديل نسب النمو في تركيا من 2.9% إلى 2.3%؟.

الإصرار على عدم التركيز على محاربة التضخّم وإبقائه أساسياً في التخطيط الاقتصادي للنمو والصادرات، سوف ‏يرسل رسالة إلى الأسواق المالية، مفادها أنّ السلطة السياسية هي المقرّر الأساسي للسياسات النقدية والمالية. ومصير السيدة أركان سيكون كسابقاتها، ولن تكون هناك استقلالية للمصرف المركزي. والمشكلة ليس بكفاءة الشخص الذي يرئس المركزي، بل بنهج السلطة السياسية التي صادرت استقلالية السلطة النقدية. وقد تكون تداعيات تمسّك الرئيس أردوغان بقرار المركزي هذه المرّة كارثية.

‏وعلى أمل أن يكون خط العودة إلى وول ستريت ما زال ممكناً للسيدة أركان، إلاّ أنّ الأمر مرهون بقرار الرئيس أردوغان، وهو أن يعطي المصرف المركزي المساحة الكافية والوافية والحرّية، لاتخاذ القرارات المناسبة، في اجتماعه في 22 حزيران (يونيو) الجاري، بمعزل عن رغبة السلطة السياسية.

أما في لبنان، فنجد رياض سلامة، الثابت الأكيد في المجلس المركزي لمصرف لبنان، وهو الحاكم بأمر السلطة النقدية لمدة ثلاثين عاماً متواصلة. القاسم المشترك بين تركيا ولبنان هو من دخل بيت طاعة الطبقة السياسية أُبقي عليه حاكماً (الحال في لبنان)، ومن عارض تمّ استبعاده عن القرار أو إنهاء خدماته (تركيا).

يواصل الاحتياطي الفدرالي الأميركي بقيادة جيروم باول تحقيق الإنجازات في إدارة السلطة النقدية، في بيئة مثقلة بالإضطرابات. في آخر اجتماع له، ترك الإحتياطي الفدرالي الأميركي نسبة الفائدة الأساسية كما هي من دون تغيير، ولم تكن هذه الخطوة إلاّ للتريث وليس لإحداث تغيير في الإستراتيجية المعتمدة من قِبل الفدرالي لمحاربة التضخم. ولهذا كان الخبر الأهم، إشارة جيروم باول إلى أنّه من المحتمل أن يُصار إلى رفع سعر الفائدة 0.5 نقطة مئوية أخرى بحلول نهاية عام 2023. لم تتلقف الأسواق هذا الخبر بإيجابية في البداية؛ تراجعت أسعار الأسهم والسندات بعد هذا التصريح، لكنها استعادت معظم هذه الخسائر في وقت لاحق في فترة ما بعد الظهر من اليوم ذاته. هذا دليل على الثقة بما يقوم به الفدرالي لجهة إدارة الاقتصاد في هذه المرحلة.

تريث الإحتياطي الفدرالي هو ردّ فعل مناسب على البيانات الأخيرة التي تُظهر أنّ الاقتصاد في أميركا بدأ بالكاد يتعافى، ولكن التضخم مستمر بمعدل أعلى مما توقّعه الاحتياطي (النسبة التي يستهدفها هي 2%) ومعظم المراقبين في القطاع الخاص. في الواقع، هناك احتمال جيد أن ينتهي الاحتياطي الفدرالي إلى رفع الفائدة الأساسية بما يزيد عن 0.5 نقطة مئوية بحلول نهاية العام.

الإحتياطي الأميركي على استعداد للانتظار شهر آخر أو أكثر، ليرى ما إذا كانت الزيادات السابقة في أسعار الفائدة الأساسية سارية بمفاعيلها للتخفيف من الضغوط التضخمية، أو إذا أدّت الاضطرابات المصرفية الأخيرة إلى تشديد شروط الإئتمان وتقليل الإنفاق الذي هو بدوره يخفّف من التضخم. ولكن، يبدو من المرجح في شكل متزايد، أنّ هناك حاجة إلى مزيد من الإرتفاعات في سعر الفائدة الأساسية.

الأكيد اليوم، هو أنّ جيروم باول استحق الإنتباه والاهتمام والاحترام والثقة، واستطاع أن يُسْقط كل محاولات إدارة الرئيس بايدن للتدخّل في مسار السياسات النقدية. ومن الصعب جداً تعميم هذا الأمر على حكّام المصارف المركزية في الكثير من البلدان. ولهذا السبب، سقطت كل المحاولات من الصين وروسيا وغيرها، لاستبعاد الدولار الأميركي عن خيارات المصارف المركزية حول العالم، في تكوين حمولتها من الإحتياطي بالعملات الأجنبية، واعتماده الخيار الأول في تمويل التجارة الدولية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات