سقوط الخطاب الليبرالي العربي


بعد سقوط نظام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي بداية عام 2011م، وبعد مضي ما يزيد على ستين عاما من تبني فئة من الحكام والمسئولين العرب المتعاقبين لما يعرف بالخطاب الليبرالي، أو خطاب التحديث كما سمي في خمسينيات القرن العشرين؛ بات المواطن العربي، وهو المواطن الذي أصبح بمقدوره إسقاط نظام أو تثبيت نظام؛ يسأل عن مدى شرعية هذا الخطاب؟ وأصحابه؟ ومدى تحقيق ما وعد به ؟
وحري بنا إنصاف ذلك الخطاب بما يمكن إنصافه به، قبل عرض إجابات تلك الأسئلة، والتي قد تبني الشعوب العربية بالاستناد عليها، خياراتها المستقبلية التي قد لا تتأخر كثيرا عن خيار شقيقتها تونس !
فالخطاب الليبرالي أو خطاب التحديث (1950م __حتى الآن) الذي ظهر في خمسينيات القرن العشرين بعد استقلال الدول العربية، والذي حقق شيء منه بعض حكام العرب من دعاة الخطاب الليبرالي، كان واحدا من خطابات الإصلاح التي تبنتها النخب العربية في ذاك الوقت في محاولاتهم للإصلاح، والخروج من مشكلة ما عرف وظل يعرف ب "حالة التخلف العربي" . حيث جاء خطاب التحديث بالإضافة إلى خطابات أخرى مثل : _خطاب النهضة (1800م__1950م) والذي من أبرز رواده رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده . _والخطاب الجديد (1980م__حتى الآن) وأبرز رواده برهان غليون، والجابري، ومحمد أركون . ليجيب عن أسئلة مثل : _ لماذا تخلفنا ولماذا تقدمت الشعوب الأخرى ؟ وما هو السبيل للخروج من حالة التخلف العربي ؟ . إذا فالليبراليون العرب من أصحاب هذا الاتجاه حاولوا الإصلاح والتغيير للأفضل، وحاولوا أخراج شعوبهم من مأزقها، وجعلهم يلحقون بركب من تقدم عنهم . فهل يا ترى نجح أصحاب الخطاب الليبرالي من حكام ومسئولين عرب، من حل مشكلة التخلف العربي، وجعل شعوبهم تلحق بالركب ؟
وهنا يجب علينا معرفة تفسير أصحاب هذا الاتجاه لحالة التخلف العربي، وطرحهم لحل هذه المشكلة . إذ يرى الليبراليون العرب أن حالة التخلف حالة شاملة وأن التقدم موجود لدى الغرب، ومن ثم فعلينا محاكاة الغرب في كل المجالات للخروج من حالة التخلف . وعمل بعض حكام العرب على فصل الدين عن الدولة تماما مثل الدول الغربية وصراعها مع الكنيسة .
وقد نجح الليبراليون العرب في تحقيق بعض الانجاز لشعوبهم، والتقدم في بعض المجالات؛ لكنهم بالتأكيد لم يحققوا الكثير ولا المرجو ! وما زالت الشعوب العربية تنام وتستيقظ على فراش التخلف، ولا تزال قطاعات داخل الوطن العربي مثل العلم، والتكنولوجيا، والوحدة، والتسلح، والديمقراطية، والزراعة، والصناعة، والتجارة، والنظام الاجتماعي، تعيش تخلفا كبيرا، إن لم يكن تراجعا عما كانت علية قبل تبني الاتجاه الليبرالي . بينما شهدنا ذلك التقدم والانتعاش في مجالات الحياة الأخرى، بل قطاعات الحياة التي أضرت وما نفعت الشعوب العربية، وزادت في حجم مصيبتها؛ فشاهدنا التقدم في الفن، وأصناف المأكولات، والتعري، والموظه، والعولمة، والأمركة، والسيارات، والماركات، وحقوق المرأة، وإقامة الاحتفالات، والأعياد، والتحدث باللغات الأجنبية على حساب اللغة العربية، وما يشبه ذلك . وفي الوقت الذي عاشت فيه الدول المتقدمة سباق التسلح، عاشت الدول العربية سباق التشلح ! وفي الوقت الذي قاد فيه العلماء وأصحاب الاختصاص الدول الغربية . قادت اليسا ونانسي وهيفاء المجتمعات العربية ! وفي الوقت الذي تحتاج فيه الشعوب العربية العودة إلى ربها ودينها، عملت الأنظمة العربية على إخراج الناس من دينها ! . أما حجة الليبراليين من حكام العرب على عدم الخروج من حالة التخلف؛ فهي أنهم لا زالوا بحاجة إلى مزيد من الوقت !
ولن نسهب بالحديث عن عواطفنا ومشاعرنا والتي هي حقائق ووقائع عن حالة التردي والتراجع التي أوصلتنا إليها الأنظمة العربية الليبرالية؛ وسنترك الحديث لأصحاب "الخطاب الجديد" الذين جاءوا ليردوا على الليبراليين العرب، ويبرهنوا على فشلهم في إدارة شؤون بلدانهم وشعوبهم، وفي الخطأ الفادح الذي أوقعوا الأمة العربية فيه طيلة الفترة الماضية .
فقد وجد أصحاب الخطاب الجديد، أن الليبراليين العرب لم يحققوا سوى الشكل وأن المضمون لم يتحقق . وأنهم اخطئوا في موقفهم من الدين الإسلامي، وأن الإسلام لا يزال قادرا على العطاء، وتجربة الغرب مع الكنيسة لا يجب أن تعمم على كل الأديان وكل الشعوب . أما إستراتيجية الحل فيجب أن تتناسب مع واقعنا، ويجب المحافظة على هويتنا . وأن تطور المجتمعات يكون نتيجة عوامل داخلية وخارجية، فيجب أن يكون الإصلاح من الداخل، وليس فقط من الخارج " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" . بالإضافة إلى أن إستراتيجية التحديث يجب أن ترتكز على التنمية الشاملة .
أما الليبراليون من حكام العرب فلا زالوا يصمون أذانهم عن سماع كشف الواقع المرير هذا، ولا زالوا يوهمون شعوبهم وربما أنفسهم أيضا أنهم ماضون في طريق الإصلاح، ولا يزالوا يشوهوا ويزوروا الحقائق لشعوبهم من خلال الإحصائيات والنسب الكاذبة عن حجم التقدم وحجم الاستثمار اللذين لا يخرجان من إطار الصحف والإعلام، وظلوا يروجوا للشكل من خلال الاحتفالات والرقصات وغيرها ظنا منهم أن يخفوا المضمون الذي لم يحققوه، ولا زال بعضهم يعتبر الإسلام الذي صنع الحضارة العربية ضربا من التخلف والرجعية، وأن ما يمكن أن تصنعه أدمغتهم البالية أكبر بكثير مما صنعه دين الله في الأرض، وربما لا يزال بعضهم يأمل أن يحقق في شيب شعره ما لم يحققه في سواده .
لكن أوهام أولئك الرعناء، البلهاء، وبعد شرود أحد أشرس كلاب الحارة الليبرالية في الوطن العربي بداية هذا العام، باتت تلك الأوهام سجينة عقولهم العقيمة، ولم يعد المواطن العربي مضطرا ليقتنع بصدق ما يدعون؛ لان الخطاب الليبرالي العربي (خطاب التخلف) بدأ يسقط، لا بل أخذ يهرب مثلما هرب زين الهاربين . وبدأت الثورة العربية تجاه هذه الليبرالية تحصد سنابلها، وهي الثورة التي أسقطت أكبر رموز الليبرالية العربية في تونس .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات