المرايا المعوجة وباروميتر العلاقات الروسية الأوروبية


جراسا -

تَثور بين الفَينة والفَينة في محيط العلاقات الدولية مواقف ونزاعات بين الدول، وتَدّعي كل دولة وتدفع بحقوقٍ معينةٍ تقابلها الدولة الأخرى بمقابلها من الحقوق والدفوع في ذات النزاع، لكن في كافة النزاعات والمواقف الدولية لم تتشبث الدول أو تؤسس ادعاءاتها ودفوعها سوى على القانون الدولي الذي لا يترك شاردةً أو واردةً إلا ونَظّمها بمبادئ وقواعد، وحَكَمها بأحكام وأصول.

ويُعَد النزاع الأخير بين الاتحاد الأوربي وروسيا الاتحادية مرآة عاكسة لطبيعة العلاقات المتوترة بين الجانين.

يُعد التمثيل الدبلوماسي مظهر من مظاهر السيادة الخارجية للدولة، وعلى ذلك فللدول كاملة السيادة الحق في إيفاد وقبول المبعوثين الدبلوماسيين، أما الدول ناقصة السيادة كالدول المحمية أو التابعة أو المشمولة بالوصاية أو المدارة من جانب دول أخرى، فهي عادة لا تملك إرسال مبعوثين دبلوماسيين من طرفها، وتتولى تمثيلها في الخارج الدولة الحامية أو المتبوعة أو الوصية أو القائمة بالإدارة، وتشمل العلاقات الدبلوماسية في مغزاها العام كل وسيلة للاتصال أو إنشاء علاقات متبادلة في مختلف المجالات بين الدول أو بينها أو بين المنظمات الدولية، وبهذا المعنى قد تنشأ علاقات دبلوماسية بين الدول في حالات السلم أو الحرب على السواء.

تَطورت القواعد العرفية المنظمة لهذه العلاقات بين الدول ذات السيادة، لتصبح من أكثر قواعد القانون الدولي ثبوتا وغير متنازع عليها، وتم تقنينها في عدد من المعاهدات الدولية، أبرزها اتفاقية فِيينّا للعلاقات الدبلوماسية عام 1961.

وبالنظر لجلال مهمة الوظيفة الدبلوماسية في توطيد العلاقات بين الشعوب، أقرّت محكمة العدل الدولية في عام 1980 في قرارها التاريخي في قضية الرهائن الدبلوماسيين الأميركيين في إيران أن "القانون الدولي ذاته تأسس على العلاقات الدبلوماسية بين الدول وأن حصانة المقر الدبلوماسي تُشكل جوهر اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية".

الشاهد أن العلاقة بين القانون الدولي والدبلوماسية تتميز بسمات بارزة أهمها التكامل والتشابك والترابط بل والتكافل بينهما، فيمكن الجزم بأن جهود الدبلوماسية الحديثة قد وُجِهت من أجل التعريف بمبادئ القانون الدولي، وهذه العلاقة الوثيقة يُعزَي إليها الأسباب التي جعلت من الدبلوماسية أداة أو وسيلة لتحقيق الأهداف والغايات السامية للقانون الدولي، وإذا كان الأخير يهدف إلي تسوية المنازعات الدولية بالوسائل السلمية، وتحقيق التعاون الدولي بحسن نية، فإن الدبلوماسية هي الوسيلة الأكثر فاعلية لتحقيق هذه الأهداف.

جَليٌ أنه ليس ثمة التزام قانوني بأن توفد الدول ممثليها الدبلوماسيين إلى الدول الأجنبية وتقبل في الوقت ذاته مبعوثي الدول الأجنبية الدبلوماسيين، بيد أن رفض الدولة إقامة علاقات دبلوماسية مع الدول الأخرى مؤداه انزوائها وبقائها خارج نطاق جماعة الدول وإقصاء نفسها تبعا لذلك عن دائرة تطبيق القانون الدولي، وهو ما ليس في صالحها إطلاقًا، ويعوق ارتقاءها وتدعيم مركزها الدولي.

علي جانب أخر، يعد قطع العلاقات الدبلوماسية أحد أخطر الوسائل التي تُعبّرعن مدى ما آلت إليه العلاقات بين دولتين أو دول معينة من تدهور، ذلك أنه يؤدي إلى إنهاء العلاقات الودية التي كانت تسود بينهم، وهو عمل سيادي منفرد الجانب، وهو تعبير عن الاختصاص التقديري للدول السيدة، يؤدي إلى انتهاء البعثة الدبلوماسية الدائمة وبعض الآثار القانونية الأخرى.

لا مِريَة أن قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدول وهي مسألة جد خطيرة، تعكس الأزمة الحاصلة التي تمر بها العلاقات الدولية بين أشخاص القانون الدولي، و إذا كان الراسخ أن القواعد التي تحكم الثنائية الدبلوماسية تُشكل أحد أقدم فروع القانون الدولي بل والعلاقات بين الدول والشعوب، وإذا كان قطع هذه العلاقات قديماً يعتبر أمراً استثنائياً، إلى أنه أضحي اليوم في ازدياد مضطرد، فمن المرتقب في ظروف وحالات استثنائية تحدث عادة خلافات بين الدول، وتفاقمت وتكاثرت هذه الخلافات في التاريخ السياسي المعاصر نتيجة تشابك وتغاير المصالح الدولية للدولة واختلاف موازين القوي، والضرب بعرض الحائط لأهم المبادئ التي تأسست عليها منظمة الأمم المتحدة بل والمبدأ الذي يشغل الصدارة في الميثاق، فتوطئة ذلك الميثاق تتحدث عن "الحقوق المتساوية للأمم كبيرها وصغيرها".

ويردف الميثاق في مادته الثانية حيث يشير إلى "تقوم المنظمة علي مبدأ المساواة في السيادة بين أعضائها".

تتعدد الأسباب التي تُلجأ الدول لذلك الخيار غير المأمول وهو قطع العلاقات الدبلوماسية، ولكن ما يعنينا في الأزمة الروسية – الأوروبية، السبب الذي قد تلجأ إليه الدول في قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة ما، وهي عندما تقوم الدول بالاحتجاج الشديد علي انتهاك خطير لحقوق الإنسان يرتكبه النظام السياسي القائم في بلد ما.

وفي هذه الحالة يُعَد قطع العلاقات الدبلوماسية بمثابة تحذير إلى الدولة المسؤولة عن هذا الانتهاك، حيث يدفعها ذلك الإجراء الجزائي إلى التفكير في الرجوع عن هذه الانتهاكات، وتدليلا فقد قطعت الكثير من الدول علاقاتها الدبلوماسية مع نظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا، وقطعت المكسيك علاقاتها الدبلوماسية مع نيكاراغوا بسبب جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكابها نظام "سوموزا" في هذا البلد.

جَليٌ أن قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدول يمثل "باروميتر" للصعوبات التي تواجهها الدول فيما يتعلق باستمرار علاقاتها بواسطة القنوات العادية للاتصالات الدولية، فإذا كانت الدبلوماسية هي أداة للتعاون والتشاور والتضامن الدولي، فإنها يمكن أن تكون في ذات الوقت وفي ظروف معينة كما أسلفنا موضوع نزاعات أو خلافات بين الدول.

ولذلك وتأسيسا علي خطورة قطع الوصل وعري الصداقة بين الدول والشعوب فإن الدول لا تأخذها العَجَلة في اتخاذ مثل ذلك القرار الخطير، وخطورة قطع العلاقات الدبلوماسية وتداعياتها الكارثية بالطبع علي كل من روسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي يدركها تماما وزير الخارجية الروسي وإلا لما أشار إليها جهارا نهارا و علي رؤوس الأشهاد.

لا يوجد التزام على الدولة السَيٍدة في أن أبرر المسوغات التي جعلتها تقدم علي قطع العلاقات الدبلوماسية والذي يعد تعبيرا عن الاختصاص التقديري الانفرادي للدولة، وإذا كانت الأسباب لقطع العلاقات الدبلوماسية تكون –عادة – معروفة ، فليس ثمة موجب دولي أو داخلي يلزم الدولة بإبداء الأسباب - العلنية أو الخفية – التي دفعتها للجوء لذلك الإجراء، ولكن في الغالب فالدولة تقصد من تسبيب قرارها الحصول على أكبر قدر من الدعم الدولي.

لا يختلف قرار الدول ذات السيادة في إقامة العلاقات الدبلوماسية مع قطع هذه العلاقات من حيث كون القرارين يعودا لتحقيق المصالح السيادية للدول؛ ولذلك حين أصدر مجلس وزراء خارجية دول جامعة الدول العربية في 15 مايو عام 1965 قرارًا بقطع العلاقات الدبلوماسية مع جمهورية ألمانيا الاتحادية، قطعت عشرة من الدول العربية الثلاثة عشر، الأعضاء في الجامعة آنذاك علاقاتها الدبلوماسية مع بون، أما ليبيا وتونس والمغرب فإنها على العكس أبقت علاقاتها مع ألمانيا الاتحادية.

لا جَرَم أن وصم وزير الخارجية الروسي النهج الأوروبي في التعامل مع روسيا في الأزمة الأخيرة بأن سلوك الاتحاد الأوروبي التهديدي بفرض عقوبات شديدة علي روسيا و الزعم بالانتهاك الجسيم لحقوق الإنسان يعكس سياسة "المرايا المُعوَجّة".

وهنا فالوزير الروسي يشير إلى أن الاتحاد الأوروبي يري ويُقَيٍم العالم بمرآته المعوجة، وأن الاتحاد الأوروبي يري القشة في عيون الأخر وعَمِي عن رؤية الخشبة في عيونه، والمرايا المُعَوجًة فيلم روسي شهير يعكس الكذب والمكائد والمواربة والظلم الذي يتبعه الأفراد كما الأنظمة السياسية للدول.

وهنا فالوزير الروسي يُومئ إلي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تعاملت بها عناصر إنفاذ القانون في الآونة الأخيرة في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية مثل فرنسا وهولندا وبلجيكا وبولندا خاصة عند مع المتظاهرين.

ختاماً، تلجأ الدول ذات السيادة إلى إقامة العلاقات الدبلوماسية، ووقفها، وقطعها لتحقيق مصالحها السيادية، وتُقدر الدول في ذلك الصدد مصالحها العليا ومصالح شعوبها، وتستند الدول لإرادتها الحرة وشخصيتها القانونية الدولية، وروسيا لا تريد قطع خيط الارتباط مع الاتحاد الأوروبي حرصا منها على بعض أطراف الخيط التي تعتقد أنها تحمل نسبة ضئيلة من التأييد للنهج الروسي في أمصار عديدة يجد فيها الاتحاد الأوروبي أن السياسة الروسية تتسق مع مصالح الاتحاد الأوروبي.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات