ماذا يتمنى المواطــنُ في عام 2021 ؟


في الطّريق إلى العام الجديد ، تلتفتُ المرآةُ إلى الوراء قليلاً ، لترى أيها المُسافرُ بعضاً من البقع السّوداء والليالي العصيّة واللحظات المُرَّة ، التي غدت كالطَّوق الخانق حول الحمامة البريئة ، وسجرت بحورَ لياليك بِشُعَلٍ من ظلامٍ بهيم ، حتى سلبت منك إرادة الحياة ودفئها ومذاقها ؛ فما العواصفُ التي حملتها "كورونا" بأثقلَ ولا أعتى من سعير الأمس ، الذي يأكل بطن صاحبه بفقره وعُسره ، وينهشُ العمر الذي تكابرَ على التَّمني ، حتى صارَ يطلبه على استحياء "يا لَيْتَ شِعْرِي وَمَا في لَيْتَ من فَرَجِ".
مع تعاظُم وطـأة وأزيز وأهوال العيش والوجع النفسي ، التي طالت الإنسان البدائي الأول في العصور القديمة ، ومع انفــلات معطيات الواقع الحديث ، وألف باء النوائبِ والمحن والتغيرات التي يعايشها البشر الآن ، ينخفضُ مستوى أمنيات الشعوب لتعود إلى كهوفِ القهر والظلام من جديد ، وترتحلَ على ناقــةِ القحــط والظمـأ عبر صحــراء جرداء خاوية ؛ ويتهـــاوى مؤشر الأمنيـــات لدى الإنسان ليصل إلى حــدٍّ مجهـول ، بحيث يعيشُ معصوماً عن المُنى ؛ ورغم كُل المصاعب التي تقلَّم آمالنا وتحجِّم إطار تفكيرنا ، إلا أننا نتمنى في سِــرِّنا ما يجعلنا نخرجُ من جوف الثرى ، والأماني في الجهــر يضحكن منَّا ؛ كأننا مقبـورين في أكفــان الأمنيات.
ككلِّ شعوب الأرض وسكَّانها ، لا ينفردُ الأردنيون بأُمنياتٍ عجيبة أو مستحيلة ، لا بل أنَّها في تصنيف حياة الشعوب تُعـد من أساسيات العيش ؛ فأيُّما أدرت بصرك في القرية ، في المدينة ، على أطراف الشارع وفي الأسواق ، في الحافلة والتاكسي ، وفي المناسبات المختلفة ، لا تسمعُ سوى أوركسترا الشكوى ، ولا تجـد غيرَ كورال الضَّنك والقهــر ؛ إلى الدَّرجة التي أصبحت وشمــاً ظاهراً في أهازيجنا وأغانينا وموروثنا الشعبي ؛ فليس شغَفــاً منهم بالزمن الجميل (كما يسمونه) ، إنّما هي طريقتهم التي تدخّل فيها القدر للهروب من واقعهم المرير إلى حيث يشحنون الهمَّة على الصبر والتحمُّل ؛ لأنهم على يقين أنَّ جزيرة أحلامهم وأمنياتهم تدور في حلقــةٍ مُفرغة ، ولا يمكنها أن تنطلق لتشقَّ بحراً هائجاً مليئاً بالحيتان ، الذين يبتلعون حتى الأحلام.
يتمنى المواطن أن يحملَ العام الجديد بشائرَ خيرٍ ، تتوقفُ فيها النّكباتُ والنوائب التي تحلُّ ببعضِ شعوب الكون ، وينتهي فيها الاقتتال والحروب والمجازر ويحلُّ السلام ، السلامُ بمعنى الأمان والاستقرار ، ونبذ الطائفية والمذهبية والعنصرية ، وأن يزول الظلم والطغيان الذي تعيشه كثير من التجمعات البشرية ، التي تُسحق وهي حيَّة.
يتمنى أنْ يعيشَ أمــداً ، كي يصلي يوماً في حُضن المسجد الأقصى وفي أكنافه ، وقـد تحرَّر بزنودٍ عربية وأنفاسٍ عالية مستبشرة ، تلتقي على العزم والنّصر لتعيــدَ كرامتها المسلوبة وحقّها المُنتـزع ؛ وتقلبُ صفحة التاريخ عن المُتاجرين بالقضية الفلسطينية ، لتبدأ سطراً جديداً من نضالِ الأحــرار الشرفاء ، بعيداً عن المراهنة والسمسرة والمداهنة والتّوهم.
يتمنى ببساطةٍ أن يجـدَ قوتَ يومه له ولعياله ، وألا يقفَ مستجدياً الحكومة الغَــرَّاء كالمُتسولِ على باب النَّصيب ، ويتمنى على الحكومة أنْ تكفَّ يدها عن اللجــوء إلى جيب المواطن ، ورفع الأسعار للسلع الضرورية والمحــروقات ، وأن تُقصـر أذرعها في فرضِ الضَّرائب المختلفة ورسوم الخدمات ، وأن تعمل على رفع رواتب العاملين في القطاع الرسمي والخاص والمتقاعدين ، لا أن تمنحَ رواتباً باليمين ثم تأخذها بالشمال نظير ما يسمى بالضرائب والنفقات ، وكأنّما "يرجعُ بخُفّي حُنين" ؛ هذه الرواتب التيً لا تكفي لسـدِّ أبسط احتياجاته البيتية ، من مؤونةٍ وسكنٍ وخدمات ماء وكهرباء وغيرها ، لا بل تطــيرُ مع الريح لتحطَّ من جديد في أعشاش الحكومة.
يتمنى أنْ تلتفتَ هذه الحكومة إلى أولئك الذين أصبحوا على قارعة الطريق ، لا يعرفونَ لهم وِجهة ، ولا يسمعُ نداءهم مسؤول ، تلك الشريحة من عمال المياومة والمهن المتخصصة والتجار والصنَّاع ، بعد أن اجتاحهم – كما نحن – طوفان "كورونا" ، الذي حرمهم من أعمالهم ومصادر أرزاقهم المتواضعة وأضرَّ بهم وبأُسرهم لفترةٍ طويلة ، إما لأسباب التوقف الاضطراري عن العمل ، أو لسطوة أصحاب العمل ؛ تماماً مثل تلك الأضرار المالية والنفسية التي يواجهها صغار المزارعين الآن بسبب تدني أسعار البيع في السوق ، الى الحد الذي قد لا يردُّ لهم تكاليف انتاجها ؛ ولعلك تتخيل الحالة الكئيبة القاتمة التي يقابلُ فيها أحدهم أبناءه وأسرته "مكسور الجناح" كما يقولون ، وهو بلا حولٍ ولا قوة ؛ فماذا تتوقع لهؤلاء أن يتمنوا ؟!
لا ترقى أمنياتُ المواطنِ كثيراً ، ولا تتعــدَّى أرَقٌ على أرق ، أو حزنٌ صامتٌ يهمسُ في القلب حتى يحطمهُ كما يقول شكسبير ، هذا المواطنُ الذي يرى ابناً له ألقت به ريحُ البطالة في أحضانه ، ولا زال يُطــاردهُ كابوس التعيين والوظيفة لسنين طويلة ، ليُضافَ إلى صفوف المعتالين في أسرته ، ويبقى محمولاً على كتفيه ، يُرهقُ كاهله ويُضيقُ صدره ؛ أو حين يرى بنتاً خطفتها البطالةُ من استحقــاقِ الحياة ، وقد صارَت الوظيفة رُكناً من أركان الزواج ، ومطلباً رئيساً لانخراط الفتيات في ركاب الزواج ؛ وعلى زخم الحزن الذي يحملُ والمعاناة التي يتكبَّد ، تجده متفائلاً بالأماني رغم نزوعها للمستحيل ، خوفاً من أن يحبلَ حزنهُ باليأس.
أمنياتٌ كثيرةٌ تطوفُ في فضاء كل مواطنٍ ، تأكلُ وتشربُ وتنتقلُ معه ، كلّما شـدَّ حزام الفقــر على جنبيه ، وكلَّما بلغَ به السيلُ الزُّبى ، وكلَّما حاول بناء جدران السعادة من قصبِ الحُزن ؛ غيرَ أنَّ الجميع يتَّفقون على أمنيةٍ عظيمةٍ نبيلةٍ ، بأن ينعمَ هذا الوطــن بالرّخاء والأمنِ ، وأن يحفظه الله من الكوارث والأسقام والآلام.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات