انتخبوني واتبعوني إلى الجنّة!


مع اقتراب الانتخابات النيابية لمجلس النواب ، والتي ينكمشُ موعدها تارةً ، ويتمدد تارةً أخرى وفق سيناريوهات "وباء كورونا" ، هل يقفُ أبناء الشعب الأردني أمام أنفسهم قليلاً للتمحيص والمراجعة والتفكير بموضوعية ليحددوا مسارهم وتوجّههم الحقيقي نحو المرشّح الذي يريدون ؟ وهل يتفكرون فيما أصابَ المجالس النيابية السابقة من تقرّحاتٍ ، كانوا هم السبب الأول فيها ؟ عندما أنتجوا وأوصلوا نوّاباً شبه أمّيين وغير مؤهلين لهذا المكان ، وأحياناً لا يمتلكون القدرات الأكاديمية ولا الفكرية ولا السياسية ، التي تشدُّ من أزرهم في التعاطي مع قضايا الوطن ومصلحة أبنائه ، وهل يُعيد المواطنون ترتيب أوراقهم وأفكارهم من جديد ليعرفوا أنّ الوطن لا يُبنى بالشعارات ، وأن العباءات وحدها لا تجلبُ المستقبلَ المشرق له ؟ وهل يعي الناسُ أنّ الجاهل – وأقصد الجهل السياسي – لا يقود أمّة ، ولا يُثير هِمّــة ، ولا يُزيلُ غُمّـة ؟ أم يصرّون على السير في ذات الدرب :
ولمّا رأيتُ الجهلَ في الناسِ فاشياً .. تجاهلتُ حتى ظنّ أنّي جاهلا
العلمُ وحدهُ لا يصنعُ مستقبل الشّعوب النائمة على حافة الهامش ، بل يبقى عاجزاً أمام تعقيدات التنمية المجتمعية والاقتصاد العالمي ، وصراعات ومناورات السياسة الدولية ، لذا فإنّ الوعي يُشكلُّ علامة فارقة في شخصية وثقافة ممثّل الشعب في البرلمان ؛ فكم من ذوي الشهادات العليا مَن يتمتع بفن التخصص ، ويبلغُ الاحترافية فيه ، ولكنه يجهل كيف يقودُ أسرته ، أو يُدير زمام أمور بيته ؛ وكم من الذين بلغوا بالعلم أعلى المراتب والدّرجات ، وتقلّدوا فيه أوسمةً ونياشيناً في مجالاتٍ عدّة ، لكنهم يعجزون عن إتقان الحديث وإدارة الحوار في جلسة إصلاحٍ ، أو جاهة خطبة عروس ؛ وكم من الذين بلغوا المناصبَ ممن وضعوا أنفسهم في قوقعة التقديس ، فاعتزلوا المجتمع ، وترفّعوا عن أبنائه ، وانسلخوا عن قيمه وعاداته ، وأقنعوا أنفسهم أنهم عَلوا واعتلوا ، فاختلقوا لأنفسهم جوّاً معزولاً ومختلفاً عمّا عرفوه ؛ كم من هؤلاء من اعتقدوا بأنه بلغوا الجبال طولاً ، فأخذوا ينتهزون المجتمعات التي خرجوا منها وتربّوا فيها ، وجيّروها لأنفسهم وسيّروها وأداروها ببعض المال ؛ وهمّهم الوحيد أن يجدوا مَن يُصفِّق لهم ، ويعزِف لمقدِمهم طُبولَ النفاق ، ويُعَرّي لأجلهم دينه وضميره ، غاضّين النظر على أنهم ما وُجدوا إلا لخدمة الوطن أولاً ، وتنمية ونهضة مجتمعاتهم ثانياً.
هذه الفئة من الناس لم يصنعهم علمهم فقط ، بل نحنُ من صنعناهم بالجهل والتزلّف والتخلّف والتّكلف ؛ فالعلمُ يُهيئك لأن تقف على خط السّباق ، لكنّه لا يضمن لك الاستمرار والفوز ، فإنْ امتلكت الوعي وأدرت عقلك جيداً ، وتشبتّ بالأصول وتركت القشور الزائفة ، واحترمت عقول الآخرين ، وما خلعتك جلدك عنك ، فإنك حتماً ستجدُ نفسك فيهم ، دون مناوراتٍ استغلالية كاذبة ، فحذارِ أن يكون خطابنا "ألا لا يجهلنّ أحدٌ علينا .. فنجهلُ فوق جهل الجاهلينا".
المرشّحُ الذي يُريده المجتمع ليسَ مرشّح الصّور والشّعارات البرّاقة والبيانات الانتخابية المدوّية والخطابات العصماء ، فكل تلك أدوات وجدت للتعبير وتقديم المرشّح أمام مجتمعه ، فكراً وتوجّهاً ورؤيةً ورسالة وبرنامجاً ، لذا يجب أن تقع في دائرة المعقول ، وألا تخرج إلى فضاءاتٍ أبعد فتكون مظللة ، تضع عامة الناس فريسةً للوهم والخداع والتلاعب بالمشاعر ، واستغلال حاجتهم لاستجداء الصوت.
المرشّحُ الحقيقي هو المرشّح الذي يفرزه مجتمعه بصدق ، ويشكل له قاعدة قوية ومقنعة لجمهوره ، دون أن يستند إلى الإقليمية الضيقة أو العصبية أو الطائفية أو رابطة الدم ، التي فكّكت المجتمعات وهدّمت أركانها.
المرشّح الحقيقي هو من يقدمه أبناء المجتمع بسيرته وخبرته وعلمه وأمانته وإخلاصه وسلوكه وثقته بقدرته وكفاءته في العمل على دفع عجلة نهضة وتنمية الوطن قُدماً إلى الأمام ، ونظافة يده ونزاهته وحرصه على مقدرات الوطن ؛ لهذا فإنّ المرشّح لا يمثِّل نفسه فحسب ، إنما يمثل مجتمعه ووطنه ، فإنْ وجدَ في نفسه أنه قادرٌ على حمل هذه الأمانة فليُقدم عليها ، ويستمر في طريق "أرعى الأمانةَ لا أخونُ أمانتي" ، وإنْ جاءَ ليكون متسلّقاً على ظهور الناس ليحقق مكاسب ومنافع شخصية ، ثم يتدحرج غائباً عنهم ككرة الثلج ، فحينها لا نقول إلا :
"فَبِئسَ ما وَلدت في الخَلقِ حوّاءُ".
المرشّح الذي يطمح إليه الناس ليسَ ذلك الذي يقدِّم نفسه كحبّات اللوز المحروق على موائد "المناسف" العريضة ، ويظهر عليهم كالبَدر بين خِيام الصحراء ، وليس ذلك الذي يحط فجـأةً بمظلّته ، وقد أكل غيابُه عن النّاس زمناً طويلاً من عمره ، تسكّعَ فيه بين محطاته الخاصة ومصالحه ، ليخرج عليهم في هذه الأثناء من عُمق ثرائه كالقرشِ البالي ، ويدّعي أنه المنقذ الوحيد ، والمصلحُ الذي سيحلُّ لهم مشاكلهم ويُحسّن أحوالهم ويُلبي ما يطمحون إليه ، ويأخذهم إلى الجنة.
إنّ لعبة المال السياسي التي يتقنها كثيرٌ من هؤلاء ، من ذوي العقول الصَدئة ، أصبحت صفةً ذميمةً ملازمةً لكلّ من يلعبها أو يتلاعب بها لتكون مفتاحه للوصول الى قبّة البرلمان ، ولكلِّ أصحاب النفوس الرخيصة الذين يروجون لها أو يستجدون أصحابها ؛ فمن يبيع نفسه ورأيه وصوته ببعضِ مالٍ ليصبحَ مملوكاً لهم ، فإنّه على استعدادٍ تام لأن يبيع وطنه بلا مال ، ويرهنَ كرامته ، ويكون المطيع الأعمى لهم ، والخادم الخائن لدينه وذاته وأهله وضميره.
وإنني لأعجبُ من بعض من ينادون بالاصلاح من أبناء الشعب في كل مجلسٍ وشارع ، ويُجلجلون بأعلى أصواتهم في الأحياء والمدن ضدّ الفساد ؛ وفي ذات الوقت تجدهم هم من يرسمون لوحات المديح الزائف لمرشحٍ لا يمتلكُ من مقومات التمثيل البرلماني سوى القراءة والكتابة ، أليسَ هذا هو الفسادُ بعينه ؟! أليست هذه الزمرة العابثة هي من شوّهت جزءاً من فكرنا ، وتغلغلت في شقوق جدراننا ، ولم تكن يوماً كالمطر ، فلا تجلبُ معها إلا الحسرة والندامة والوحل.
أعتقدُ أنّ ما أدركته المجتمعات عبر تجاربها المريرة مع نوّاب البرلمان ، ويأسها المطلق من قدرتهم على أن يَبروا بوعودهم ، أو يقدموا ما يترك الأثر الايجابي والبصمة الطيبة في حق الوطن والمواطن ، تجعلنا أقدر على أن نُحاكمَ أنفسنا ، وأن نردّ الى الطريق الصائب والمسار العدل في اختيار ممثلي الوطن في البرلمان ، وأنْ ندرك بحكمة أنّ "فاقد الشيء لا يعطيه" ؛ لعلنا نُعيدُ بريق الأمس ، وزمن الرجال الرجال ، الذين كان لهم وزنهم وثقلهم وإرثهم ، وشهد لهم الزمن بأنهم "أثوابُ عزٍّ عليه المجدُ قد نَبتا".



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات