أيها الناس لقد ولدتكم أمّهاتكم درجة ثالثة!


ابراهيم نصرالله

حاولت العثور على إحصائية يمكن أن تحدد نسبة الوفيات التي تقع في (صفوف) حملة التأمين الصحي، درجة ثالثة، في اللحظات الحرجة للمرض، مقارنة بين أولئك الذين يحملون الدرجة الأولى من التأمين، في قطاع الصحة العربي، لم أجد؛ كما لو أن بحثاً أو إحصائية كهذه من أسرار الدّول.

أذكر جيدًا كيف تم التعتيم على موت الروائي جمال ناجي، حين حملته أسرته إلى مستشفى حكومي وهو مصاب بنوبة قلبية، وبقي ساعتين خارج غرفة الطوارئ، إلى أن جاءته النوبة الثانية، وبدأ يرتجف، فأسعفوه بالأوكسجين، ولكن بعد فوات الأوان. تفاصيل موت جمال رواية رعب في حدّ ذاتها.

موت الشاعر محمد القيسي، قبل أن يُتمَّ التاسعة والخمسين من عمره، مأساة أخرى، حيث تنقّل أولاده به من مستشفى حكومي إلى آخر، وصولاً إلى مستشفى خاص، لم يعالجه، لأن أبناءه لم يكونوا في تلك اللحظات العصيبة يحملون في جيوبهم مبلغ خمسمائة دينار (750$) كدفعة أولى؛ تلك قصة موت معلن آخر تضاف إلى قصة جمال. وهناك حالات لا حصر لها لبشر يُمنعون من دخول المستشفى الحكومي لأنهم لا يملكون تأميناً، ويُمنعون من دخول المستشفيات الخاصة لأنهم لا يملكون مالاً!

أن يكون هناك بشر في المرتبة الثالثة في أمر يتعلق بالحق في حياتهم، وهم يملكون دستورياً الحقّ في مواطنة متساوية، ويملكون الحق في الحياة ضمن المبادئ العالمية لحقوق الإنسان، ولا يملكون هذا الحق أمام غرف الطوارئ في المستشفيات الخاصة والحكومية، أمر يحيل الدساتير إلى نصوص كلامية مفرغة من العدل، والواقع مساحة للتمييز، وكل تمييز لا يخلو من رائحةِ عنصرية.

مفزع، مثلاً، أن يذهب حامل الدرجة الثالثة إلى مستشفى حكومي لأن هناك شكاً في وجود ورم في الدماغ مثلاً، ويُعطى موعداً بعد ستة أشهر أو أكثر لتصويره، وحين يذهب إلى مستوصف خاص ويدفع تكاليف الصورة، ويتبين أن هناك ورمًا فعلًا، يصرُّ المستشفى على الموعد الذي حدد له بعد ستة أشهر!

نشرت منذ عام، هنا، شهادة امرأة في حالة وضع تشتمُها الممرضةُ في مستشفى حكومي أردني لأنها تصرخ ألمًا وهي تلِد: يا حمارة، ما دمتِ لا تتحملين الألم فلماذا تتزوجين؟! وأخرى يموت مولودها فيضعونه في كرتونة تحت سريرها حتى الصباح! وهناك حكايات كثيرة لا تقل رعبًا يعيشها مواطنو الدرجة الثالثة.

مأزق الدرجة الثالثة ذكّرني بفيلم «الدرجة الثالثة» (الحافل بالمعاني السياسية)؛ يصرخ رئيس النادي في جمهور الدرجة الثالثة الذي تلقّى ضرباً مبرحاً من جمهور ناد آخر: إذا ما انضربتم على شان النادي، مين إللي ح ينضرب؟! أجيبْ مشجعين ينضربوا مكانكم ع شان النادي؟! فيجيب أحد جمهور الدرجة الثالثة المحتج: عمرنا ما شفنا حدّ ينضرب في المقصورة والأولى!

في الفيلم الشهير «تايتانيك»، نتذكر كيف مات 700 إنسان من ركاب الدرجة الثالثة غرقاً وتجمُّداً، لأن حق النجاة (أو الحق في الحياة) كان أولاً لركاب الدرجة الأولى، وكأن الحق في الحياة هو حقّ من يملكون، لا حق أصحاب الجيوب الفارغة. ومن ينسى كوارث البحر المصرية أيضاً، مثل عبارة السلام التي فاق عدد ضحاياها أعداد ضحايا تايتنك!

قد نفهم كيف يتم إنزال نادٍ رياضي لكرة القدم إلى الدرجة الثالثة مثلاً، ولكننا لا نفهم كيف تُحشر شعوب في «الدرجة الثالثة»، وكأنهم لم يولدوا بشراً ولا أحراراً، بل ولدوا درجة ثالثة، وفي هذه الدرجة يُحرّم عليهم أن يكونوا بشرًا أو يكونوا أحرارًا، ببساطة لأن حقهم في الحياة أقل من وعود الدساتير ومبادئ حقوق الإنسان.

في مصر، وهي ثاني دولة في العالم أدخلت السكك الحديدية إلى أرضها بعد إنجلترا، والأولى في أفريقيا والشرق الأوسط، يمكن أن نتأمل برعب حجم ضحايا الدرجة الثالثة مقارنة بسواها. في مصر يطلقون على قطارات الدرجة الثالثة أسماء مثل: قطارات الغلابة، بيت العائلة، ركوبة الفقير، وسيلة الغلبان.

ليس لدي معلومات عن ركاب الطائرات، ولكنني على يقين من أن ركاب الدرجة الأولى، حين تقع الطائرة في مأزق، يكون حقهم في الحياة متقدِّمًا على حق أولئك الذين خارج هذا الحيز الصغير الذي يسمى (المقصورة)، بما في ذلك الأطفال وأمّهاتهم.

لا أريد أن أتحدث عن كوننا، عالمًا ثالثًا، ولا نملك حق الحياة كالعالم الأول، لأن كل من يملكون بيننا السلطة والمال، يملكون حقوق العالم الأول وهم جزء منه، أو كما تقول أغنية الشيخ إمام: همَّ حاجة وإحنا حاجة.

الرسام الفرنسي دومييه، طرد الدرجة الأولى من لوحاته، مثلما فعل غويا، وكرس دومييه جزءًا من تجربته التشكيلية لركاب الدرجة الثالثة الذين جعلهم أبطال أعماله، وهكذا فعلت الغالبية العظمى من مبدعي العالم في مختلف الفنون..

من المفارقات الرهيبة أن شخوص الدرجة الثالثة هم الأبطال الحقيقيون، غالباً، لا على الشاشة فقط، بل في الحياة، لأنهم في النهاية هم أغلبية الشعب، سواء تعلق هذا الأمر بمظاهرة في الشارع أو ثورة، أو عمل في حقل، أو في حقول الآداب والفنون، وفي الملاعب، فكل اللاعبين الكبار جاؤوا من الحارات والساحات الترابية التي كانوا يُطاردون فيها كرات القماش والمطاط الرخيصة.

لقد ولدت إنساناً، ولكنهم أنزلوني فور مولدي إلى الدرجة الثالثة.

ما الذي قدمه كثيرون من أصحاب الدرجة الأولى، أو أصحاب الحق في الحياة، لأوطانهم؟ لقد تبين أن الطغاة الذين أشبعونا وطنية هم سارقو الوطن، وتبين أن مديري مخابرات سوّدوا حياتنا لسنوات طوال (حفاظًا على الوطن) كانوا غارقين في صفقات الفساد.

كل تلك التداعيات لم يكن سببها اكتشافي أن البطاقة الصحية التي استخرجتها ليَ العائلة تنتمي إلى فئة الدرجة الثالثة، فقد كنت أعرف أنني مصنّف: درجة ثالثة، حتى وإن كنت كاتبًا يشار إليه أو لا يشار، ولكن أن توافق على وضع هذه البطاقة، الشبيهة ببطاقة الهوية المدنية، في جيبك للملمّات، يعني أنك متمسك بتذكرتك للممات في عظيم الأزمات! إنها تعني أنك تقرّ بأنك درجة ثالثة. إنها في حقيقتها بطاقة احتقار لإنسانيتك، ورضوخ لمنطق أن من يحمل بطاقة الدرجة الأولى، إن أصابه مغص بسبب التخمة، يحق له الانعطاف (كحالة طارئة) إلى أول مستشفى خاص، وتلقّي العلاج الذي تُسدد قيمته الحكومة/ دافعو الضرائب أمثالنا، في حين أن الذي يثبت أنه مصاب بالسرطان، المُثْبتِ بالصورة التي دفع تكاليفها، لا يحقّ له تلقي العلاج إلا في شهر أبريل/ نيسان المقبل، الذي لن يرى تفتح الربيع فيه، أو يموت بعد ساعتين في المستشفى أمام غرفة الطوارئ، كجمال ناجي.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات