"مخطىء من ظن يوما أن للثعلب دينا"
في لقاء جمعني أنا وعددا قليلا من الكتّاب برئيس الديوان الملكي آنذاك الدكتور باسم عوض- الذي بدا مستعجلا لإنهاء اللقاء ربما لازدحام برنامجه- الذي تحدث بلغة استراتيجية مفرطة بالتفاؤل لدرجة جعلت الخوف يدب بأوصالي من أن مطبخ القرار لا يعي كثيرا من الأمور المهمة، وليس عنده أي حسّ استراتيجي أو فهم لديناميكية التهديد الإسرائيلي، غير أن أكثر ما أفزعني كان الحديث عن حل الدولتين والانطباع الذي تركه رئيس الديوان وكأن الحل في مرمى الحجر، وأن أياما أو ربما أشهرا فقط تفصلنا عنه!
كان يتكلم بحيويّة يحسد عليها، وينتقل من ملف لآخر، وكأن ملفات السياسة الخارجية كاملة بيده، وهي كذلك إلى حد كبير في تلك الأيام بسبب ظروف لها علاقة بتجريد الحكومة من صلاحياتها، غير أن حيويّة الحديث والتنقل من ملف لآخر بسرعة الضوء كانت الستار الذي يغلّف غياب الخطط البديلة في حال فشل الرؤية، وهنا لا بد من استحضار مالكولم كير الذي برع في تقديم نظرية اللعبة، فأي استراتيجي يجب أن يحاكي الواقع ويقاربه بعدد من السيناريوهات حسب الإمكانات والتغير المحتمل في موقف الآخرين وكذلك التغير المستمر في البيئة الحاضنة للفعل السياسي والاستراتيجي. كل ذلك كان غائبا، وكان الحاضر الوحيد تلك الحيوية الفارغة من أي مضمون عمليّ.
لم أحتمل ما بدا وكأنه تحطيب في الليل، لكنني تمهلت لعلني أسمع ما يبدد الانطباع الذي بدا يتشكل في أول دقيقتين، غير أن أيا من ذلك لم يحدث، عندها وجهت سؤالا عن إمكانية وجود خطة بديلة في جعبة مطبخ القرار السياسي في حال فشلت الخطة الأولى؟ أظن - وبعض الظن ليس إثما - أنه لم يعجبه السؤال، فهو الذي أمضى نصف ساعة يتحدث فيها كيف أن الأردن يستثمر علاقته الاستراتيجة مع أميركا لمصلحة الحل، وكيف أن الرئيس عباس ينسق مع الأردن، في حين كنا نعلم أن الرئيس عباس لا يخبر الأردن بكل شيء لدرجة أن معروف البخيت حذّر من سيناريو أن يتفق الفلسطينيون سرّا مع إسرائيل في قضايا تنعكس على مصالح الأردن في الحل النهائي، ولدرجة أن مدير المخابرات آنذاك الجنرال محمد الذهبي كان يستبق فرض حلول كارثية على الأردن بالاشتباك مع حماس وفتح قناة مع إيران.
صحيح أن السؤال لم يعجبه، وبدلا من الاشتباك أجاب بعجلة: "سنعيد الكرة". طبعا إجابة لا تنم عن وعيّ استراتيجي على الإطلاق، وربما كانت تنم عن نوع من الاستخفاف بمخاوفنا.
بعدها، التقيت وزير الخارجية الدكتور صلاح البشير، ولم يختلف الوزير عن رئيس الديوان بل زاد عليه بأن الأردن لن يتعامل مع فصيل (حماس)، وإنما فقط مع السلطة الفلسطينية! طبعا نسيّ حضرة الوزير أن الأردن رفض التعامل مع حكومة حماس المنتخبة واستمر في التعامل مع فصيل فتح الذي خسر الانتخابات وشرعية التمثيل آنذاك، مفارقة لا يمكن فهمها، لكن لليبراليين الجدد رؤية يمكن وصفها بانعدام الرؤية والانجراف خلف الإدارة الأميركية. على كل، فالوزير قال: إنه لا يمتلك سوى الاستمرار بنفس النهج، مسقطا من خياله "الخصب" الفكرة البدهية وهي أن على مطبخ القرار خلق خيارات جديدة بدلا من التمسك بخيار وحيد، وبخاصة عندما تتغير الفرضيات الأساسية التي يستند عليها ذاك الخيار البائس. والأدهى أن أيا منهم لا يقرأ ما تقوم به المطابخ الإسرائيلية والأميركية المختلفة والتي تتناول الدور الأردني المستقبلي، وهنا نشير للمثال لا الحصر دراسة غيورا إيلاند عن الدور المستقبلي للأردن. هذا غيض من فيض من اشتباكنا مع مسؤولين في الدولة الأردنية، وهنا أذكر أيضا وزير خارجية سابق غير ليبرالي قال لي يوما: إنه لا يملك إلا أن يكون متفائلا وأن وظيفته تحتم عليه التفاؤل وغير ذلك لا يوجد له عمل!
في المقابل، قبل غزو أميركا للعراق بفترة وجيزة، كتب توماس فريدمان مقالا مهما نشر في نيويورك تايمز يسأل فيه عن اليوم التالي لاحتلال العراق، وهو بالضبط ما فات الإدارة السابقة التي وقعت تحت سحر أحمد الجلبي الذي كان يقول بأن العراقيين سينظروا للأميركان بوصفهم محررين، لكن ذلك التفكير الرغائبي كان مسوؤلا عن مأساه عراقية وعن دحر للاستراتيجية الأميركية لدرجة دفعت بريتشادر هاس إلى القول بأن اللحظة الأميركية في الشرق الأوسط قد بدأت بالانحسار! فلا يجوز اقتصار التخطيط الاستراتيجي على سيناريو واحد، هكذا أراد أن يقول توماس فريدمان وصدقت نبوءته. طبعا لم نتعلم من دروس الآخرين واكتفينا بنقد تجاربهم الفاشلة دون أن ندرك ولو للحظة بأننا لا نختلف عنهم منهجيا!
وحتى لا يكون الحديث عن باسم عوض الله أو صلاح البشير أو عن الليبراليين الجدد الذين تبنوا برنامجا أميركيا واضح المعالم، نقول ذهبت هذه الرموز، وللآن لم نلمس أن هناك مطبخا للقرار الاستراتيجي في الأردن يفكر نيابة عن الأردنيين ونيابة عن الحكم ويضع السيناريوهات والخطط البديلة. وبالتالي أرجو أن لا يفهم من مقدمتي بأنني أنتقد الليبراليين الجدد الذين سيطروا على مقاليد الأمور في الأردن في فترة حساسة فقط لأنني أختلف معهم سياسيا، فالموضوع أبعد من ذلك، فقد رحلوا، والمفارقة أن رحيلهم عن مواقع القوة والتأثير لم يغير حقيقة أنه لا يوجد مطبخ قرار استراتيجي فعال، فغياب المطبخ هو قضية لا تخص الليبراليين دون غيرهم.
وما زاد الطين بله غياب مراكز دراسات حقيقة تعنى بالشأن الاستراتيجي بعد أن تحول "الجدي" منها إلى دكاكين للحصول على تمويل من مصادر أجنبية مختلفة بصرف النظر عن أجندات هذا التمويل من ذاك، فهو بمجمله تمويل يخدم مشاريع وتصورات لا تريد بالأردن خيرا. والآن، لو نظرنا إلى مجمل ما تنتجه هذه المراكز، فإننا لا نكاد نجد دراسة جديّة تتناول مستقبل الأردن في الإقليم، كما لا نجد دراسة واحدة تقدم لصانع القرار في الأردن تصورات أو سيناريوهات لا على المدى القصير أو المتوسط أو البعيد! في الحقيقة، لا يمكن إلقاء اللوم فقط على الدولة الأردنية، فمؤسسات المجتمع المدني تحركها مصالح بعيدة كثيرا عن القلق الوجودي والاستراتيجي، لكننا في نهاية الأمر في قارب واحد إما أن ننجو معا أو نغرق معا.
الأردن الرسمي الذي يفكر نيابة عن الأردنيين، يرى أن حل الدولتين يخدم المصالح العليا للدولة الأردنية، وأضيف القول أن هذا الموقف ربما بعير عن رأي الأغلبية من أبناء الوطن، بمعنى أن هذا الحل هو الأمثل للأردن الرسمي، وأن حل الدولتين هو هدف معلن في السياسة الخارجية الأردنية. ونشير هنا إلى أن فن القيادة (statesmanship) يتطلب مواءمة الوسائل مع الأهداف، وهنا نسأل عن الوسيلة التي توظفها السياسة الخارجية الأردنية لتحقيق هذه الغاية؟ ونطرح سؤالا آخر لا يقل أهمية، وهو كيف يرى مطبخ القرار السيناريو البديل عن حل الدولتين، فإذا سلمنا بأن الفشل في الحل- كما يقول دائما الدكتور مروان المعشر- يلحق ضررا بالأمن الوطني الأردني، فنسأل ماذا في جعبة صاحب القرار لدفع الأذى عن الأردن في حال فشل الحال القائم على إقامة دولة فلسطينية مستقلة وصاحبة سيادة ومترابطة جغرافيا في فلسطين وليس في مكان آخر؟
سأكون مباشرا وأقول: إن المقاربة الأردنية يجب أن تستند على عدد من الفرضيات التي ينبغي أن لا تغيب عن بال من يصوغ السياسة الخارجية، وهي كما يلي: أولا، حل الدولتين يتطلب شريكا إسرائيليا يقبل بهذا المنطق، وهو غير متوفر ولا يبدو أن ديناميكية القوة الإسرائيلية قادرة على إنتاج مثل هذا الشريك إلا إذا كان هناك ضغط أميركي، وهو غير متوفر، أو كان هناك ضغط من نوع آخر يغير من أولويات الناخب الإسرائيلي، وهذا الضغط الآخر يتطلب رفع الكلفة لبقاء الاحتلال، ولكنه قد يرفع من كلفة من يرد القيام بذلك ربما بدرجات أكبر. وقد ثبت أن الحكومة الحالية غير معنية بالسلام لأن المضي نحو السلام يطيح بها، ولا نظن أن رئيس وزراء إسرائيلي واحد على استعداد لتغيير القاعدة الذهبية في الحكم في إسرائيل وهي إعطاء الأولوية للبقاء السياسي. صحيح أن خلافات تنشب الآن بين ليبرمان ونتنياهو، غير أن تغيير الائتلاف وجلب كديما سيفضي ربما لحراك، لكنه ليس كافيا لحمل إسرائيل على القبول بحل الدولتين بحدوده الدنيا المطروحة عربيا. فقضية التنازل عن أرض للفلسطينيين هي قضية تمس جوهر السياسة الداخلية لا يمكن في ظل النظام القائم لأي رئيس حكومة أن يقوم بذلك دون أن يدفع ثمنا سياسيا باهظا أو ربما يدفع حياته ثمنا كما حصل مع رابين.
ثانيا، في العلاقة مع الكيان الصهيوني، هناك معادلة واحدة ناجزة وهي الوقت يمضي والأرض تضيع، وكلما تأخر تنفيذ حل الدولتين تقل الأرض التي يمكن لإسرائيل التنازل عنها، وهذا يجعل قبولها من الجانب الفلسطيني صعبا. وهذا الحراك إنما يمثل تكتيكا صهيونيا كلاسيكيا لخلق حقائق على الأرض (fait accompli)، وهو أمر يتفهمه العقل الغربي الذي لاينفك يطالب العرب بأخذ الواقع في الحسبان، وربما علينا أخذ العبرة من رسالة الضمانات الشهيرة التي بعث بها بوش إلى شارون.
ثالثا، ثمة رومانسية مبالغ فيها لدى بعض المثقفين العرب عندما يتحدثون بشكل ساذج عن حل الدولة الواحدة. ففي مثل هذه الدولة الثنائية القومية ستقوم الديموقراطية بما لم تقم به الجيوش العربية أو المقاومة الفلسطينية وهو السيطرة على الدولة من خلال الزيادة العددية، ولكن فرصة تحقيق مثل هذا الحل متدنية جدا لأن مبرر وجود الحركة الصهيوينة هو يهودية الدولة وليس ديموقراطيتها. وهنا دعوة لقراءة الفكر الصهيوني وممارساته جيدا بدلا من الاختباء خلف التفكير والتحليل الرغائبي تعبيرا عن كسل فكري. فديناميكية المعضلة الديموغرافية وعدم إمكانية تحقيق حل الدولة الواحدة أو حل الدولتين وعدم قبول إسرائيل مبدأ نظام الابرتهايد يضعنا أمام خيار واحد فقط وهو الترانسفير. فقد يأخذ شكلا غير تقليدي لكنه إن كان هو المخرج التاريخي للأزمة الصهيونية فما الذي سيمنع من تحقيقه؟ فالمراهنون على صمود الشعب الفلسطيني البطل لكن المشرذم سياسيا وغير المدعوم عربيا لا يقرأون التاريخ جيدا. ففي حرب 1948 خرج اللاجئون كما خرج النازحون في 1967. وهذا يعني أن للصمود الفلسطيني حدودا وأن أي مواجهة شاملة سينتج عنها لاجئون جدد وربما ستزود إسرائيل بفرصة أخرى لإتمام مهمة حرب عام 1948، وربما هنا علينا قراءة ما يكتبه المؤرخ الإسرائيلي بني موريس عن هذا الأمر على وجه الخصوص في الأربع سنوات الأخيرة على الأقل.
رابعا، نرى أن المتضرر الأول من عدم قيام دولة فلسطينية هو الأردن وليس غيره. وبالفعل بدأ البعض بالتفكير في خيارات كونفيدرالية لن يستفيد منها الأردنيون سوى مزيد من التهميش. فالكونفيدرالية ما هي إلا بمثابة تعبير مخفف أو اسم حركي عن الوطن البديل ولكن بمساحات مختلفة. وبهذا الصدد علينا أن نشير إلى أن العمل مع الفلسطينيين أيضا محبط: فلا السلطة الفلسطينية قادرة، إذ يتتهما الكثيرون بأنها ستفرط بالحقوق ولو كان ذلك على حساب الأردن، في حين أن حماس تسعى لتدمير حل الدولتين لأنها لا تريد الأرض كلها، وهذا سيؤدي حتما إلى فشل خيار الدولتين.
وأمام هذا التشخيص، فإن السيناريو الأقرب هو أن تستمر إسرائيل في التوسع بشكل مستمر وعندما تحصل على الأرض التي تريد ستعيّن حدودها من جانب واحد وتقول للبقية هذه دولة فلسطين، التي لن تكون قابلة للحياة وسيرفضها الفلسطينون، وسيقوم الجيش الإسرائيلي برفع كلفة المقاومة إن حصلت، وسيكون هناك ضغط عربي ودولي على الأردن للتدخل لرفع المعاناة عن الفلسطينيين...، عندها تتحول القضية برمتها إلى حالة إنسانية! على الأردن أن لا يتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية إنسانية بل من منطلق استراتيجي من الطراز الأول.
والمطلوب أن يفكر الأردن مليّا بهذه الأخطار ويسعى بكل السبل للبحث عن خيار الدولتين، لأن ذلك في مصلحته أولا وأخيرا. وبما أن العمق العربي غير موجود وبما أنه لا يمكن الوثوق بالجانب الإسرائيلي ولا بالجانب الفلسطيني (السلطة). فالخطر القادم على الأردن ليس مصدره فقط التغير في الديناميكية الإقليمية وترجيح سيناريو فشل حل الدولتين بل وفي الإصرار الأردني الغريب على عدم بحث خيارات أخرى أو تنويع المقاربات وتحضير الأردنيين للتصدي لخطر صهيوني قادم سيضعنا أمام ثنائية التصدي أو الاستسلام، وإذا كان خيارنا هو الأول ربما علينا اليوم قبل غد طرح موضوع خيارات الدولة الأردنية بعيدا عن أميركا وإسرائيل، فالأردن الرسمي وعلى لسان الملك عبد الله ومنذ عام 2006 يقول إن حل الدولتين هو مصلحة الأردن العليا وأن الفشل في الحل سيعرض الأمن الوطني الأردني لضربة كبيرة. لكن لم يفصح الأردنيون عن خياراتهم أو عن أي بديل (Plan B) في حال فشل عملية السلام. والأنكى أن نثق بما يقوله الأميركيون والإسرائيليون وتطميناتهم للأردن، وقد جربناها، ولنا تجربة مريرة معها و " مخطىء من ظن يوما أن للثعلب دينا".
في لقاء جمعني أنا وعددا قليلا من الكتّاب برئيس الديوان الملكي آنذاك الدكتور باسم عوض- الذي بدا مستعجلا لإنهاء اللقاء ربما لازدحام برنامجه- الذي تحدث بلغة استراتيجية مفرطة بالتفاؤل لدرجة جعلت الخوف يدب بأوصالي من أن مطبخ القرار لا يعي كثيرا من الأمور المهمة، وليس عنده أي حسّ استراتيجي أو فهم لديناميكية التهديد الإسرائيلي، غير أن أكثر ما أفزعني كان الحديث عن حل الدولتين والانطباع الذي تركه رئيس الديوان وكأن الحل في مرمى الحجر، وأن أياما أو ربما أشهرا فقط تفصلنا عنه!
كان يتكلم بحيويّة يحسد عليها، وينتقل من ملف لآخر، وكأن ملفات السياسة الخارجية كاملة بيده، وهي كذلك إلى حد كبير في تلك الأيام بسبب ظروف لها علاقة بتجريد الحكومة من صلاحياتها، غير أن حيويّة الحديث والتنقل من ملف لآخر بسرعة الضوء كانت الستار الذي يغلّف غياب الخطط البديلة في حال فشل الرؤية، وهنا لا بد من استحضار مالكولم كير الذي برع في تقديم نظرية اللعبة، فأي استراتيجي يجب أن يحاكي الواقع ويقاربه بعدد من السيناريوهات حسب الإمكانات والتغير المحتمل في موقف الآخرين وكذلك التغير المستمر في البيئة الحاضنة للفعل السياسي والاستراتيجي. كل ذلك كان غائبا، وكان الحاضر الوحيد تلك الحيوية الفارغة من أي مضمون عمليّ.
لم أحتمل ما بدا وكأنه تحطيب في الليل، لكنني تمهلت لعلني أسمع ما يبدد الانطباع الذي بدا يتشكل في أول دقيقتين، غير أن أيا من ذلك لم يحدث، عندها وجهت سؤالا عن إمكانية وجود خطة بديلة في جعبة مطبخ القرار السياسي في حال فشلت الخطة الأولى؟ أظن - وبعض الظن ليس إثما - أنه لم يعجبه السؤال، فهو الذي أمضى نصف ساعة يتحدث فيها كيف أن الأردن يستثمر علاقته الاستراتيجة مع أميركا لمصلحة الحل، وكيف أن الرئيس عباس ينسق مع الأردن، في حين كنا نعلم أن الرئيس عباس لا يخبر الأردن بكل شيء لدرجة أن معروف البخيت حذّر من سيناريو أن يتفق الفلسطينيون سرّا مع إسرائيل في قضايا تنعكس على مصالح الأردن في الحل النهائي، ولدرجة أن مدير المخابرات آنذاك الجنرال محمد الذهبي كان يستبق فرض حلول كارثية على الأردن بالاشتباك مع حماس وفتح قناة مع إيران.
صحيح أن السؤال لم يعجبه، وبدلا من الاشتباك أجاب بعجلة: "سنعيد الكرة". طبعا إجابة لا تنم عن وعيّ استراتيجي على الإطلاق، وربما كانت تنم عن نوع من الاستخفاف بمخاوفنا.
بعدها، التقيت وزير الخارجية الدكتور صلاح البشير، ولم يختلف الوزير عن رئيس الديوان بل زاد عليه بأن الأردن لن يتعامل مع فصيل (حماس)، وإنما فقط مع السلطة الفلسطينية! طبعا نسيّ حضرة الوزير أن الأردن رفض التعامل مع حكومة حماس المنتخبة واستمر في التعامل مع فصيل فتح الذي خسر الانتخابات وشرعية التمثيل آنذاك، مفارقة لا يمكن فهمها، لكن لليبراليين الجدد رؤية يمكن وصفها بانعدام الرؤية والانجراف خلف الإدارة الأميركية. على كل، فالوزير قال: إنه لا يمتلك سوى الاستمرار بنفس النهج، مسقطا من خياله "الخصب" الفكرة البدهية وهي أن على مطبخ القرار خلق خيارات جديدة بدلا من التمسك بخيار وحيد، وبخاصة عندما تتغير الفرضيات الأساسية التي يستند عليها ذاك الخيار البائس. والأدهى أن أيا منهم لا يقرأ ما تقوم به المطابخ الإسرائيلية والأميركية المختلفة والتي تتناول الدور الأردني المستقبلي، وهنا نشير للمثال لا الحصر دراسة غيورا إيلاند عن الدور المستقبلي للأردن. هذا غيض من فيض من اشتباكنا مع مسؤولين في الدولة الأردنية، وهنا أذكر أيضا وزير خارجية سابق غير ليبرالي قال لي يوما: إنه لا يملك إلا أن يكون متفائلا وأن وظيفته تحتم عليه التفاؤل وغير ذلك لا يوجد له عمل!
في المقابل، قبل غزو أميركا للعراق بفترة وجيزة، كتب توماس فريدمان مقالا مهما نشر في نيويورك تايمز يسأل فيه عن اليوم التالي لاحتلال العراق، وهو بالضبط ما فات الإدارة السابقة التي وقعت تحت سحر أحمد الجلبي الذي كان يقول بأن العراقيين سينظروا للأميركان بوصفهم محررين، لكن ذلك التفكير الرغائبي كان مسوؤلا عن مأساه عراقية وعن دحر للاستراتيجية الأميركية لدرجة دفعت بريتشادر هاس إلى القول بأن اللحظة الأميركية في الشرق الأوسط قد بدأت بالانحسار! فلا يجوز اقتصار التخطيط الاستراتيجي على سيناريو واحد، هكذا أراد أن يقول توماس فريدمان وصدقت نبوءته. طبعا لم نتعلم من دروس الآخرين واكتفينا بنقد تجاربهم الفاشلة دون أن ندرك ولو للحظة بأننا لا نختلف عنهم منهجيا!
وحتى لا يكون الحديث عن باسم عوض الله أو صلاح البشير أو عن الليبراليين الجدد الذين تبنوا برنامجا أميركيا واضح المعالم، نقول ذهبت هذه الرموز، وللآن لم نلمس أن هناك مطبخا للقرار الاستراتيجي في الأردن يفكر نيابة عن الأردنيين ونيابة عن الحكم ويضع السيناريوهات والخطط البديلة. وبالتالي أرجو أن لا يفهم من مقدمتي بأنني أنتقد الليبراليين الجدد الذين سيطروا على مقاليد الأمور في الأردن في فترة حساسة فقط لأنني أختلف معهم سياسيا، فالموضوع أبعد من ذلك، فقد رحلوا، والمفارقة أن رحيلهم عن مواقع القوة والتأثير لم يغير حقيقة أنه لا يوجد مطبخ قرار استراتيجي فعال، فغياب المطبخ هو قضية لا تخص الليبراليين دون غيرهم.
وما زاد الطين بله غياب مراكز دراسات حقيقة تعنى بالشأن الاستراتيجي بعد أن تحول "الجدي" منها إلى دكاكين للحصول على تمويل من مصادر أجنبية مختلفة بصرف النظر عن أجندات هذا التمويل من ذاك، فهو بمجمله تمويل يخدم مشاريع وتصورات لا تريد بالأردن خيرا. والآن، لو نظرنا إلى مجمل ما تنتجه هذه المراكز، فإننا لا نكاد نجد دراسة جديّة تتناول مستقبل الأردن في الإقليم، كما لا نجد دراسة واحدة تقدم لصانع القرار في الأردن تصورات أو سيناريوهات لا على المدى القصير أو المتوسط أو البعيد! في الحقيقة، لا يمكن إلقاء اللوم فقط على الدولة الأردنية، فمؤسسات المجتمع المدني تحركها مصالح بعيدة كثيرا عن القلق الوجودي والاستراتيجي، لكننا في نهاية الأمر في قارب واحد إما أن ننجو معا أو نغرق معا.
الأردن الرسمي الذي يفكر نيابة عن الأردنيين، يرى أن حل الدولتين يخدم المصالح العليا للدولة الأردنية، وأضيف القول أن هذا الموقف ربما بعير عن رأي الأغلبية من أبناء الوطن، بمعنى أن هذا الحل هو الأمثل للأردن الرسمي، وأن حل الدولتين هو هدف معلن في السياسة الخارجية الأردنية. ونشير هنا إلى أن فن القيادة (statesmanship) يتطلب مواءمة الوسائل مع الأهداف، وهنا نسأل عن الوسيلة التي توظفها السياسة الخارجية الأردنية لتحقيق هذه الغاية؟ ونطرح سؤالا آخر لا يقل أهمية، وهو كيف يرى مطبخ القرار السيناريو البديل عن حل الدولتين، فإذا سلمنا بأن الفشل في الحل- كما يقول دائما الدكتور مروان المعشر- يلحق ضررا بالأمن الوطني الأردني، فنسأل ماذا في جعبة صاحب القرار لدفع الأذى عن الأردن في حال فشل الحال القائم على إقامة دولة فلسطينية مستقلة وصاحبة سيادة ومترابطة جغرافيا في فلسطين وليس في مكان آخر؟
سأكون مباشرا وأقول: إن المقاربة الأردنية يجب أن تستند على عدد من الفرضيات التي ينبغي أن لا تغيب عن بال من يصوغ السياسة الخارجية، وهي كما يلي: أولا، حل الدولتين يتطلب شريكا إسرائيليا يقبل بهذا المنطق، وهو غير متوفر ولا يبدو أن ديناميكية القوة الإسرائيلية قادرة على إنتاج مثل هذا الشريك إلا إذا كان هناك ضغط أميركي، وهو غير متوفر، أو كان هناك ضغط من نوع آخر يغير من أولويات الناخب الإسرائيلي، وهذا الضغط الآخر يتطلب رفع الكلفة لبقاء الاحتلال، ولكنه قد يرفع من كلفة من يرد القيام بذلك ربما بدرجات أكبر. وقد ثبت أن الحكومة الحالية غير معنية بالسلام لأن المضي نحو السلام يطيح بها، ولا نظن أن رئيس وزراء إسرائيلي واحد على استعداد لتغيير القاعدة الذهبية في الحكم في إسرائيل وهي إعطاء الأولوية للبقاء السياسي. صحيح أن خلافات تنشب الآن بين ليبرمان ونتنياهو، غير أن تغيير الائتلاف وجلب كديما سيفضي ربما لحراك، لكنه ليس كافيا لحمل إسرائيل على القبول بحل الدولتين بحدوده الدنيا المطروحة عربيا. فقضية التنازل عن أرض للفلسطينيين هي قضية تمس جوهر السياسة الداخلية لا يمكن في ظل النظام القائم لأي رئيس حكومة أن يقوم بذلك دون أن يدفع ثمنا سياسيا باهظا أو ربما يدفع حياته ثمنا كما حصل مع رابين.
ثانيا، في العلاقة مع الكيان الصهيوني، هناك معادلة واحدة ناجزة وهي الوقت يمضي والأرض تضيع، وكلما تأخر تنفيذ حل الدولتين تقل الأرض التي يمكن لإسرائيل التنازل عنها، وهذا يجعل قبولها من الجانب الفلسطيني صعبا. وهذا الحراك إنما يمثل تكتيكا صهيونيا كلاسيكيا لخلق حقائق على الأرض (fait accompli)، وهو أمر يتفهمه العقل الغربي الذي لاينفك يطالب العرب بأخذ الواقع في الحسبان، وربما علينا أخذ العبرة من رسالة الضمانات الشهيرة التي بعث بها بوش إلى شارون.
ثالثا، ثمة رومانسية مبالغ فيها لدى بعض المثقفين العرب عندما يتحدثون بشكل ساذج عن حل الدولة الواحدة. ففي مثل هذه الدولة الثنائية القومية ستقوم الديموقراطية بما لم تقم به الجيوش العربية أو المقاومة الفلسطينية وهو السيطرة على الدولة من خلال الزيادة العددية، ولكن فرصة تحقيق مثل هذا الحل متدنية جدا لأن مبرر وجود الحركة الصهيوينة هو يهودية الدولة وليس ديموقراطيتها. وهنا دعوة لقراءة الفكر الصهيوني وممارساته جيدا بدلا من الاختباء خلف التفكير والتحليل الرغائبي تعبيرا عن كسل فكري. فديناميكية المعضلة الديموغرافية وعدم إمكانية تحقيق حل الدولة الواحدة أو حل الدولتين وعدم قبول إسرائيل مبدأ نظام الابرتهايد يضعنا أمام خيار واحد فقط وهو الترانسفير. فقد يأخذ شكلا غير تقليدي لكنه إن كان هو المخرج التاريخي للأزمة الصهيونية فما الذي سيمنع من تحقيقه؟ فالمراهنون على صمود الشعب الفلسطيني البطل لكن المشرذم سياسيا وغير المدعوم عربيا لا يقرأون التاريخ جيدا. ففي حرب 1948 خرج اللاجئون كما خرج النازحون في 1967. وهذا يعني أن للصمود الفلسطيني حدودا وأن أي مواجهة شاملة سينتج عنها لاجئون جدد وربما ستزود إسرائيل بفرصة أخرى لإتمام مهمة حرب عام 1948، وربما هنا علينا قراءة ما يكتبه المؤرخ الإسرائيلي بني موريس عن هذا الأمر على وجه الخصوص في الأربع سنوات الأخيرة على الأقل.
رابعا، نرى أن المتضرر الأول من عدم قيام دولة فلسطينية هو الأردن وليس غيره. وبالفعل بدأ البعض بالتفكير في خيارات كونفيدرالية لن يستفيد منها الأردنيون سوى مزيد من التهميش. فالكونفيدرالية ما هي إلا بمثابة تعبير مخفف أو اسم حركي عن الوطن البديل ولكن بمساحات مختلفة. وبهذا الصدد علينا أن نشير إلى أن العمل مع الفلسطينيين أيضا محبط: فلا السلطة الفلسطينية قادرة، إذ يتتهما الكثيرون بأنها ستفرط بالحقوق ولو كان ذلك على حساب الأردن، في حين أن حماس تسعى لتدمير حل الدولتين لأنها لا تريد الأرض كلها، وهذا سيؤدي حتما إلى فشل خيار الدولتين.
وأمام هذا التشخيص، فإن السيناريو الأقرب هو أن تستمر إسرائيل في التوسع بشكل مستمر وعندما تحصل على الأرض التي تريد ستعيّن حدودها من جانب واحد وتقول للبقية هذه دولة فلسطين، التي لن تكون قابلة للحياة وسيرفضها الفلسطينون، وسيقوم الجيش الإسرائيلي برفع كلفة المقاومة إن حصلت، وسيكون هناك ضغط عربي ودولي على الأردن للتدخل لرفع المعاناة عن الفلسطينيين...، عندها تتحول القضية برمتها إلى حالة إنسانية! على الأردن أن لا يتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية إنسانية بل من منطلق استراتيجي من الطراز الأول.
والمطلوب أن يفكر الأردن مليّا بهذه الأخطار ويسعى بكل السبل للبحث عن خيار الدولتين، لأن ذلك في مصلحته أولا وأخيرا. وبما أن العمق العربي غير موجود وبما أنه لا يمكن الوثوق بالجانب الإسرائيلي ولا بالجانب الفلسطيني (السلطة). فالخطر القادم على الأردن ليس مصدره فقط التغير في الديناميكية الإقليمية وترجيح سيناريو فشل حل الدولتين بل وفي الإصرار الأردني الغريب على عدم بحث خيارات أخرى أو تنويع المقاربات وتحضير الأردنيين للتصدي لخطر صهيوني قادم سيضعنا أمام ثنائية التصدي أو الاستسلام، وإذا كان خيارنا هو الأول ربما علينا اليوم قبل غد طرح موضوع خيارات الدولة الأردنية بعيدا عن أميركا وإسرائيل، فالأردن الرسمي وعلى لسان الملك عبد الله ومنذ عام 2006 يقول إن حل الدولتين هو مصلحة الأردن العليا وأن الفشل في الحل سيعرض الأمن الوطني الأردني لضربة كبيرة. لكن لم يفصح الأردنيون عن خياراتهم أو عن أي بديل (Plan B) في حال فشل عملية السلام. والأنكى أن نثق بما يقوله الأميركيون والإسرائيليون وتطميناتهم للأردن، وقد جربناها، ولنا تجربة مريرة معها و " مخطىء من ظن يوما أن للثعلب دينا".
تعليقات القراء
أكتب تعليقا
تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه. - يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع |
|
الاسم : | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : | |
ومحمد الذهبي هو المنقذ.....!!!!!!!
ارجو من القراء مطالعة....لتعرفو سبب هذا الهجوم على سياسات الدكتور باسم عوض الله وعلى تمجيد محمد الذهبي ......في هذه الفترة بالذات
لكني فقط أود أن اشير إلى أنني وضعت كتابا في عام 2004 متوقعا هذا السيناريو، وبالتالي ليست القضية صحوة من غفوة ضمير ولك كل الشكر وباقي المعلقين