جدتي إزهيا النابلسي


جدتي لأمي الحجة إزهيا الصالح النابلسي، من عشيرة بدوية من قبائل بني صخر، نسبها "النابلسي" يعود لبلدة عرابة في محافظة نابلس، شقيقها الشيخ ابراهيم النابلسي -كان يتنقل من عرابة للجولان الى دير يوسف الى بيت راس شمال مدينة اربد- ومعه ربعه وانسبائه واصهاره ومواشيه، بحثا عن الماء والكلاء. خطبها جدي إمليحان وهي مع اهلها في الجولان، وانتقل بعد الزواج بها لتعيش حياتها مع الفلاحين والفلاحات في قرية بيت راس القرية الرومانية الجبلية المحاذية لاربد من الشمال.

والتحق بها شقيقها الشيخ وربعه ليسكنوا في المداحل وهي ارض منحدرة تقع الى الغرب من البلدة العتيقة بيت راس. كان لجدتي منوحتها، الخاصة بها، وهي شلية تتكون من عدد محدود من الاغنام، تسرح وترعى مع اغنام اخيها التي تعد بالمئات، يذهب بها الرعاة الى السهول والمراعي في اطراف وجوانب القرية الاربعة في الصباح كما يعودون في المساء، في مشهد رتيب جميل، يملاء فيها الشوارع والازقة الترابية من القرية الوادعة، بينما اجراس الاغنام وحفيفها مع بعضها والسناسل، واصوات الرعاة تتناغم مع بعضها، لتعزف الحانا وسينفونيات خالدات في الذاكرة والذكرى يعز - هذه الايام- نظيرها ! بقيت جدتي وفية لبدويتها وعلى تواصل مع اهلها في حلهم وترحالهم، ومع شقيقاتها وذراريهم في سما السرحان ومغير السرحان والباعج، والزعتري، لتزورهم في الصيف، وتجاملهم في مناسباتهم، حيث كان لمقدمها لبيوتهم -عز وجاه- يحيطونها بها، ويغمرها الود وتقبيل الايادي وحميمية اللقيا، من الاجيال المتتابعة المواليد للعمة الكبيرة الحجة إزهيا. اما في محيطها القروي فكانت تعتبر من الميسورات في زمانها حيث اشترت بعض من الارضي والحواكير، من حر اموالها، وكان بيتها لا يخلو من السمن البلدي ولا الزيت والطيب والزعتر البري والبابونج والميرمية، وكانت تنام على سرير معدني، مدهون باللون الابيض الحليبي، يعلوه ديكور من اساور وتيجان وخراخيش، وفراش وغطاء دافئ وثير.

كانت جدتي تضحي بجمل في عيد الاضحى، توزعه على اهل القرية والمارة من الناس بسخاء، ولا تأكل منه، بناءا" على فتاوي بعض المشايخ ومدعين المعرفة الشرعية في تلك الحقبة ! وكانت تحج يرحمها الله على جمل مع حملة الحجيج التي يقودها الحاج صالح المسعد، وكانت تروي لي وغيري كيفية الحج وتفاصيله ومعاناته ! حيث حصل معها ان قد نفق جملها وهي على ظهره، لتسقط عنه وتشتري غيره من الصحراء، وهي في طريق ذهابها للحج، حيث كانت قد سقطت عن الجمل النافق، فجائت العواقب سليمة، من جراء السقطة، حيث كانت خسائرها الجمل، الذي نفق، وتحول احد اسنانها الامامية الى اللون الرمادي - وهو السن الفارق في مبسمها الانيق، الذي كنت اسئلها عنه دوما- وتجيب انه تحول بفعل السقطة. جدتي كانت متسامحة وعملية وصاحبة جهد في مواسم الحصاد وخاصة قلاعة العدس والكرسنة، وحصل ان تسامحت مع احد احفادها الكبار- اللغير ملتزمين بالمنطق والعرف كما ينبغي- بعد ان سرق منها ثلاثون دينار في صبيحة يوم باكر، واستأجر سيارة اجرة شفر، من كراج بور سعيد في اربد المدينة، ذهب بها لعمان وانفق جل ما سرقه منها، وغاب طوال النهار لبعد الغروب، وكانت تلوم نفسها خوفا عليه وتبكيه وتقول " انا مسامحتة بالثلاثين دينار، منشان الله، لا حدا يلومه ! انه ولد وساعطيه غيرها بس يرجع" وفعلا اعطته ثمن العدسات التي تعود لمحصول حاكورتها الى الجنوب من منزل والده ! رحم الله جدتي النابلسية كما كانوا ينادونها، فقد كانت كريمة كرم البدو، وطيبة طيبة الفلاحين منتجة فاعلة، تجوب الارض وهي تلقط الزعتر والجعدة، وتبرم وتجدل خيوط الصوف بمغزلها الخيزراني الجميل، لتصنع لنا نحن احفادها كسوة الشتاء. وكانت تشك وتلظم قلائد القطين والباميا والدنيدلة والجعدة بخيوطها القطنية والصوفية، وتجفف الصغير الاحمر الناضج من حبات ثمار البندورة، وتنشرها على مسطحات من القماش، لتعد لنا يبيس البندورة ومجففها، ومنتجات الصيف والربيع الطازجة، مخزونا إستراتيجيا لفصل الشتاء، الصعيب الذي لا يبقي من مخزونها ولا يذر !

وجدتي "الجحة النابلسية" كانت حنونة، وسيدة معطائة متواصلة مع رغبات الجيل وطموحات النشء، حيث كانت تأخذني في طفولتي بيدها مرافقا لحضرتها عندما تزور اهلها وشقيقاتها، كما كانت تختارني في إجازة المدارس في الصيف للنوم عندها، ضيفا عليها في بيتها وكانت رحمها الله تكرمني بالنوم على سريرها الوثير، بينما كانت هي تنام على الارض وتغطيني بلحافها النيلي المعقم، والجميل الانيق، مشفوعا بحنانها وطيبتها، وتطعمني البيض المقلي بالسمن البلدي ولبن الكيس ومما يتوفر لديها من طيب الطعام البلدي في خزائنها الغنية بالمخبوء من النعم. رحمها الله رحمة واسعة وغفرلها، ورحم ذلك الجيل الذي ولد الآباء والامهات، وأورث لنا الارض، وانتج وبنى وزرع، وخلف لنا ارض مزروعة بالحب والعواطف والامل، قبل ان تأتي هذه الايام المملوءة بالضنك ونقص في الكرامة المكتسبة في بلادنا و" بلاد العرب اوطاني من الشام لبغدان .... ومن نجد الى يمن الى مصر فتطوان".

وجمعة مباركة بالرحمة والمغفرة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات