الامتناعُ عن العمل المُتفق عليه لمدّة محدّدة - أو غيرِ محدّدة – بقصد الحصول على مكاسبٍ مُعيّنة كالزيادة في الأجر ، أو كان لردّ اجراءٍ قرّره أو أدخله الطرف الآخر في العقد ؛ بات اليوم من الوسائل المُشتهرة والمُنتشرة – لا سيّما لدى الهيئات والنقابات العمّاليّة – ويُطلق عليها اسم الإضراب ؛ ولا شكّ أنّها اخلالٌ بعقد الإجارة وتعطيلٌ للمنفعة التي صِيغَ العقدُ من أجلها ؛ لكنّ البعض يبيحها بالربط لها مع مشروعيّة الغاية أو المصالح المطلوبة ، على القاعدة المعروفة : الغاية تبرّر الوسيلة ؛ فما هو حكم الشريعة فيها ؟ .
إذا كان الحديث عن إضراب المعلمين الجاري هذه الأيام من قبل نقابتهم فإنّ التصوّر السليم للمسألة مُيسّرٌ لمن هو أهلٌ للبحث فيها ، إذ الجوانب المُعينة على هذا كثيرة ومتوافرة ؛ فقطاع التربية والتعليم من أكبر الفئات الوظيفية في أيّ بلدٍ ، وعمله متعلِّقٌ – أساساً – بكلّ هيئات المجتمع من أفرادٍ ومؤسسات ، وذو أثرٍ خطير على بناء الدّولة الأخلاقي والاقتصادي وحتى أمنه واستقراره ، وهذا ليس خافياً على أحد ؛ ولذا كلّه فإنّ طروء أيّ حادثٍ على مثل هذا القطاع فلا بدّ أنْ يكون مُنعكساً – بصورةٍ كبيرة – على أوضاع الدّولة برُمّتها ، على خلاف ما لو كان ذلك الحادث في قطاع مهنيّ آخر أقلّ شأناً ؛ الأمر الذي أراهُ – والله أعلم – ذا أثرٍ بالغٍ في الحكم الشّرعي على إضراب المعلمين عن تدريس الطلبة كوسيلةٍ للضغط على الحكومة في سبيل تحقيق مطالبها والوصول لغاياتها .
نعلمُ – ابتداءً – أنّ كثيراً مِن المعلّمين سَيَلْقوْن مضمون المقالة بنوعِ ازدراءٍ وشيء من الاستخفاف ؛ لكنّنا نربأ بهم أنْ يكونوا ساخرين مُستهزئين ، ونبرأ إلى الله – تعالى – إن كانوا فاعلين ؛ فالوارد فيها جُلّه من كلام علماء لَوَت أيديهم قراطيسُ العلم ، وانحنت في مجالسه ظهورُهم ، ورفع اللهُ في الناس ذكْرَهم وأعلى قدْرَهم ، ولقد رأيتُ من السلامة لي أنْ تكون أكبر مساحات الكلام – هنا – لتأصيلاتهم العلميّة في بحث المسائل العصريّة كهذه التي بين أيدينا ، ولا يعني ما يتمُّ تقريره من أحكام الإضراب عندهم أنّهم - ومن يتبناها – هم منكرون لِما للمعلمين من حقوقٍ مادّية و معنويّة ، أو أنهم يغضون الطرف عمّا قد يكون ظلماً واقعاً بهم ؛ لكنّ الحديث عن الوسائل المُتّبعة في تحصيل الحقوق أو ردّ الظلم ، وليس وقوفاً مع جهةٍ ضدّ أخرى أو انتصاراً لها بأيّ حال ، فنحن أبناء وطن واحد والواجب تقديم المصلحة العامة لبلدنا ودفع الشّرور عنها ما أمكن لهذا سبيل ولو كان على حسابِ إغماضنا – ولو مؤقتاً - عن مصلحةٍ فئوية ، أو تحمّل ما نراه نوْعاً من الظلم يلحق بنا ، مع الاحتفاظ بحقّ التمسّك بالمطالبات وفق المسالك التي تقينا مزالق الوقوع في الفتن والفوضى والارتباك على مستوى المجتمع الأردني كُلّه ، ولا تُلحق الضرر بأحدٍ منهم لا سيّما إن كانوا هم عدّة المستقبل من أبنائنا الطلبة .
إنّ الامتناع عن تدريس الطلّاب منْعٌ لحقوقهم الأساسية من تربية وتعليم ورعاية ، وهذا يتضمن ظُلماً لهم ، ناهيك عن حدوث المشكلات المتعلّقة بالأسَرة واضطراب أوضاعها النفسيّة والاجتماعية ؛ فإذا كانت نقابة المعلمين ترى في الإضراب وسيلة فاعلة لنيل المكاسب أو دفع ما تراه ظُلماً للمعلمين وبَخْساً لحقوقهم فإنهم بهذا إنما يردّون الظلم بالظلم ؛ والقاعدة الأصوليّة تقول : ' الضرر لا يُزالُ بضررٍ مثله ولا أكبر منه ' ؛ وهذا ما لا يُقرّه شرعٌ أو عقل ، بل الإضرابُ عن العمل على تحريمه عامّةُ أهل العلم ؛ يقول العلّامة علي بن حسن الحلبي – ناصحاً المعلّمين – تحديداً - : ولقد أخْبَرَنا رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بوحيٍ مِن ربِّه - تعالى- عمّا يُشبهُ هذه الحالَ - فيما لو كانت مَطالبُ المعلِّمِين حقًّا خالصاً-؛ فقال - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في الحديثِ المُتَّفَقِ على صحَّتِهِ عن ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -:
' ستكونُ أَثَرَةٌ وأُمورٌ تُنكِرُونَها '
قالوا : يا رسولَ الله! فما تأمُرُنا ؟
قال : ' تُؤدُّونَ الحقَّ الذي عليكم، وتسألونَ الله الذي لكم '
فقدَّمَ النبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - (الحقَّ) الذي أنتُم مُطالَبُونَ به على (.....) الذي أنتُم تُطالِبُونَ به .
فلماذا تجعلُونَ أنفُسَكُم - أيُّها المُربُّون- رعاكُمُ اللهُ - بامتناعِكُم هذا - قُدْوَةً غيرَ حسنةٍ ولا صالحةٍ لطُلَابِكُم وأبنائِكُم ومجتمعِكُم؟ فضلاً عن مخالفةِ هديِ رسولكم الكريم - صلَّى الله عليه وسلم- الشريف، وأدبِهِ اللّطيف؟ .
ألا فلْتُؤدُّوا الحقَّ الذي عليكم، ولْتَسْأَلُوا ربَّكُم – سُبحانَهُ - الذي لكم؛ ولْتَسيرُوا – لتحقيق مطالبكم- وَفْقَ طريقٍ مُنضبِطٍ لا يُخالفُ شرعَ ربِّكُم الرحيم .
و قال الإمام ابن عثيمين - رحمه الله - في كتابه ' فقه السياسة الشرعية ' : قضية الإضراب عن العمل - سواء كان هذا العمل خاصاً أو بالمجال الحكومي - لا أعلم له أصلاً من الشريعة يبنى عليه،ولا شك أنه يترتب عليه أضرار كثيرة حسب حجم هذا الإضراب شمولاً ، وحسب حجم هذا الإضراب ضرورة .
قلت : مَن يُمعن النظر في واقع الأمّة اليوم ، وما وصلت إليه دولٌ بأكملها من الفوضى والانفلات والدّمار وضياع الأمن وشيوع الخوف ؛ فلا بدّ أنْ يفطن لأمرٍ – في موضوع الإضرابات – هو غاية في الأهميّة ، يكمن في الضرورة الشّرعيّة المُلّحة للمصالح العامّة ؛ ولا شكّ أنّ من المؤثرات سلباً – في هذا - هو لجوء النقابات والهيئات المهنية والأفراد العاملين إلى الامتناع عن العمل وتعطيله كلما أرادوا من حكومتهم زيادة في الأجر أو تعديل قانون .. ، وتنازل الدّولة – في كلّ مرّة ! - حفظاً للمصلحة العامة أو دَفْعاً لمفاسد كبيرة متوقعة ، يزيد هذا مع الاستقواء – أكثر – بما يرونه حقّاً لهم من التهديد بالتصعيد ، وهكذا – شيئاً فشيئاً – يتجرأ أيُّ أحدٍ – أيّاً كان مرادُه ! – على الدّولة ونظامها العام ، ما يُقوّي – كثيراً – الحكمَ على الإضراب بالمنع وعدم الجواز كوسيلة للمطالبة بالحقوق .
وثمّة أمر آخر يرسّخ قناعتنا بهذا الحكم ؛ ألا وهو عدمُ انضباط هذه الوسيلة بالقواعد الشرعية – أو حتى العقلية! – التي تحفظ على الفرد و المجتمع مصالحه الأساسيّة ؛ فلا ندري ما يقوله المُتحمّسون للإضراب لو أنّ الطرفين تعنتا في الموقف أو الرأي شهوراً طويلة .. أيُّ شرع – أو حتى عقل! – يرضى ببقاء أولادنا خارج مدارسهم لسنين ! ، ولو كان الإضرابُ للأطباء .. ماذا لو مات مسلمٌ بسبب امتناع طبيب عن علاجه امتثالاً لإضراب نقابته ! - كما حصل في غزّة قبل أعوام – ومن يحمل وزْره ؟ .
إنّ كرامة المعلّم لا تصنعها أموالُ الدنيا ، ولا يردّ ما نقص منها قانونٌ أو نظام ، ولو كان هذا من المُعينات المّادية المهمة التي لا ننكرها ؛ وإنما هي بعِظم رسالتهم المُستمدة من إرث النبوّة ونُبل آثارها الشريفة ، وبما يكون عليه المعلم من قيم الأمانة والصدق والعطاء ، وامتثال القدوة الحسنة بصلاح أخلاقه أمام تلاميذه ؛ وإذا نَكَص المجتمع كلُّه عن هذا فلا يُتوقّع – أبداً - من المعلمين مهما تعاظمت مشاكلهم المادّية أو رأوْا هضْماً لحقوقهم ، وليسيروا – كما قال أهل العلم – وَفق الطرق الشّرعيّة والقواعد المرعيّة .
على نقابة المعلمين إدراكُ الواقع في مدارسنا ، واستجلاء المُشكلات التربوية والتعليمية فيها كأولوية هامّة تتقدّم أيّ شيء آخر ، والقيام بدورها الرئيس في تطوير القدرات الفنيّة الذّاتية للمدراء و المعلمين ، وإجراء البحوث والدّراسات التحليلية حول مُعضلات البيئة المدرسيّة الدّاخلية المسئولة عن تردّي الأوضاع التعليمية ودخولها في هوّة سحيقة ونفقٍ مُظلم .
لقد حصل المعلمون على شيء من حقوقهم المادّية والمعنويّة في الآونة الأخيرة ، واستبشر العقلاء خيراً أن تتقدم مدارسنا بتربية أبنائنا على الوجه الذي يرضاه ربّنا عزّ وجل لنا ؛ فهل هذا – أو شيء منه – قد وقع ؟ سؤالٌ نُلقيه على مسامع أهل العدل والإنصاف ، بعيداً عن التهويل والتهوين والإرجاف ! .
الامتناعُ عن العمل المُتفق عليه لمدّة محدّدة - أو غيرِ محدّدة – بقصد الحصول على مكاسبٍ مُعيّنة كالزيادة في الأجر ، أو كان لردّ اجراءٍ قرّره أو أدخله الطرف الآخر في العقد ؛ بات اليوم من الوسائل المُشتهرة والمُنتشرة – لا سيّما لدى الهيئات والنقابات العمّاليّة – ويُطلق عليها اسم الإضراب ؛ ولا شكّ أنّها اخلالٌ بعقد الإجارة وتعطيلٌ للمنفعة التي صِيغَ العقدُ من أجلها ؛ لكنّ البعض يبيحها بالربط لها مع مشروعيّة الغاية أو المصالح المطلوبة ، على القاعدة المعروفة : الغاية تبرّر الوسيلة ؛ فما هو حكم الشريعة فيها ؟ .
إذا كان الحديث عن إضراب المعلمين الجاري هذه الأيام من قبل نقابتهم فإنّ التصوّر السليم للمسألة مُيسّرٌ لمن هو أهلٌ للبحث فيها ، إذ الجوانب المُعينة على هذا كثيرة ومتوافرة ؛ فقطاع التربية والتعليم من أكبر الفئات الوظيفية في أيّ بلدٍ ، وعمله متعلِّقٌ – أساساً – بكلّ هيئات المجتمع من أفرادٍ ومؤسسات ، وذو أثرٍ خطير على بناء الدّولة الأخلاقي والاقتصادي وحتى أمنه واستقراره ، وهذا ليس خافياً على أحد ؛ ولذا كلّه فإنّ طروء أيّ حادثٍ على مثل هذا القطاع فلا بدّ أنْ يكون مُنعكساً – بصورةٍ كبيرة – على أوضاع الدّولة برُمّتها ، على خلاف ما لو كان ذلك الحادث في قطاع مهنيّ آخر أقلّ شأناً ؛ الأمر الذي أراهُ – والله أعلم – ذا أثرٍ بالغٍ في الحكم الشّرعي على إضراب المعلمين عن تدريس الطلبة كوسيلةٍ للضغط على الحكومة في سبيل تحقيق مطالبها والوصول لغاياتها .
نعلمُ – ابتداءً – أنّ كثيراً مِن المعلّمين سَيَلْقوْن مضمون المقالة بنوعِ ازدراءٍ وشيء من الاستخفاف ؛ لكنّنا نربأ بهم أنْ يكونوا ساخرين مُستهزئين ، ونبرأ إلى الله – تعالى – إن كانوا فاعلين ؛ فالوارد فيها جُلّه من كلام علماء لَوَت أيديهم قراطيسُ العلم ، وانحنت في مجالسه ظهورُهم ، ورفع اللهُ في الناس ذكْرَهم وأعلى قدْرَهم ، ولقد رأيتُ من السلامة لي أنْ تكون أكبر مساحات الكلام – هنا – لتأصيلاتهم العلميّة في بحث المسائل العصريّة كهذه التي بين أيدينا ، ولا يعني ما يتمُّ تقريره من أحكام الإضراب عندهم أنّهم - ومن يتبناها – هم منكرون لِما للمعلمين من حقوقٍ مادّية و معنويّة ، أو أنهم يغضون الطرف عمّا قد يكون ظلماً واقعاً بهم ؛ لكنّ الحديث عن الوسائل المُتّبعة في تحصيل الحقوق أو ردّ الظلم ، وليس وقوفاً مع جهةٍ ضدّ أخرى أو انتصاراً لها بأيّ حال ، فنحن أبناء وطن واحد والواجب تقديم المصلحة العامة لبلدنا ودفع الشّرور عنها ما أمكن لهذا سبيل ولو كان على حسابِ إغماضنا – ولو مؤقتاً - عن مصلحةٍ فئوية ، أو تحمّل ما نراه نوْعاً من الظلم يلحق بنا ، مع الاحتفاظ بحقّ التمسّك بالمطالبات وفق المسالك التي تقينا مزالق الوقوع في الفتن والفوضى والارتباك على مستوى المجتمع الأردني كُلّه ، ولا تُلحق الضرر بأحدٍ منهم لا سيّما إن كانوا هم عدّة المستقبل من أبنائنا الطلبة .
إنّ الامتناع عن تدريس الطلّاب منْعٌ لحقوقهم الأساسية من تربية وتعليم ورعاية ، وهذا يتضمن ظُلماً لهم ، ناهيك عن حدوث المشكلات المتعلّقة بالأسَرة واضطراب أوضاعها النفسيّة والاجتماعية ؛ فإذا كانت نقابة المعلمين ترى في الإضراب وسيلة فاعلة لنيل المكاسب أو دفع ما تراه ظُلماً للمعلمين وبَخْساً لحقوقهم فإنهم بهذا إنما يردّون الظلم بالظلم ؛ والقاعدة الأصوليّة تقول : ' الضرر لا يُزالُ بضررٍ مثله ولا أكبر منه ' ؛ وهذا ما لا يُقرّه شرعٌ أو عقل ، بل الإضرابُ عن العمل على تحريمه عامّةُ أهل العلم ؛ يقول العلّامة علي بن حسن الحلبي – ناصحاً المعلّمين – تحديداً - : ولقد أخْبَرَنا رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بوحيٍ مِن ربِّه - تعالى- عمّا يُشبهُ هذه الحالَ - فيما لو كانت مَطالبُ المعلِّمِين حقًّا خالصاً-؛ فقال - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في الحديثِ المُتَّفَقِ على صحَّتِهِ عن ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -:
' ستكونُ أَثَرَةٌ وأُمورٌ تُنكِرُونَها '
قالوا : يا رسولَ الله! فما تأمُرُنا ؟
قال : ' تُؤدُّونَ الحقَّ الذي عليكم، وتسألونَ الله الذي لكم '
فقدَّمَ النبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - (الحقَّ) الذي أنتُم مُطالَبُونَ به على (.....) الذي أنتُم تُطالِبُونَ به .
فلماذا تجعلُونَ أنفُسَكُم - أيُّها المُربُّون- رعاكُمُ اللهُ - بامتناعِكُم هذا - قُدْوَةً غيرَ حسنةٍ ولا صالحةٍ لطُلَابِكُم وأبنائِكُم ومجتمعِكُم؟ فضلاً عن مخالفةِ هديِ رسولكم الكريم - صلَّى الله عليه وسلم- الشريف، وأدبِهِ اللّطيف؟ .
ألا فلْتُؤدُّوا الحقَّ الذي عليكم، ولْتَسْأَلُوا ربَّكُم – سُبحانَهُ - الذي لكم؛ ولْتَسيرُوا – لتحقيق مطالبكم- وَفْقَ طريقٍ مُنضبِطٍ لا يُخالفُ شرعَ ربِّكُم الرحيم .
و قال الإمام ابن عثيمين - رحمه الله - في كتابه ' فقه السياسة الشرعية ' : قضية الإضراب عن العمل - سواء كان هذا العمل خاصاً أو بالمجال الحكومي - لا أعلم له أصلاً من الشريعة يبنى عليه،ولا شك أنه يترتب عليه أضرار كثيرة حسب حجم هذا الإضراب شمولاً ، وحسب حجم هذا الإضراب ضرورة .
قلت : مَن يُمعن النظر في واقع الأمّة اليوم ، وما وصلت إليه دولٌ بأكملها من الفوضى والانفلات والدّمار وضياع الأمن وشيوع الخوف ؛ فلا بدّ أنْ يفطن لأمرٍ – في موضوع الإضرابات – هو غاية في الأهميّة ، يكمن في الضرورة الشّرعيّة المُلّحة للمصالح العامّة ؛ ولا شكّ أنّ من المؤثرات سلباً – في هذا - هو لجوء النقابات والهيئات المهنية والأفراد العاملين إلى الامتناع عن العمل وتعطيله كلما أرادوا من حكومتهم زيادة في الأجر أو تعديل قانون .. ، وتنازل الدّولة – في كلّ مرّة ! - حفظاً للمصلحة العامة أو دَفْعاً لمفاسد كبيرة متوقعة ، يزيد هذا مع الاستقواء – أكثر – بما يرونه حقّاً لهم من التهديد بالتصعيد ، وهكذا – شيئاً فشيئاً – يتجرأ أيُّ أحدٍ – أيّاً كان مرادُه ! – على الدّولة ونظامها العام ، ما يُقوّي – كثيراً – الحكمَ على الإضراب بالمنع وعدم الجواز كوسيلة للمطالبة بالحقوق .
وثمّة أمر آخر يرسّخ قناعتنا بهذا الحكم ؛ ألا وهو عدمُ انضباط هذه الوسيلة بالقواعد الشرعية – أو حتى العقلية! – التي تحفظ على الفرد و المجتمع مصالحه الأساسيّة ؛ فلا ندري ما يقوله المُتحمّسون للإضراب لو أنّ الطرفين تعنتا في الموقف أو الرأي شهوراً طويلة .. أيُّ شرع – أو حتى عقل! – يرضى ببقاء أولادنا خارج مدارسهم لسنين ! ، ولو كان الإضرابُ للأطباء .. ماذا لو مات مسلمٌ بسبب امتناع طبيب عن علاجه امتثالاً لإضراب نقابته ! - كما حصل في غزّة قبل أعوام – ومن يحمل وزْره ؟ .
إنّ كرامة المعلّم لا تصنعها أموالُ الدنيا ، ولا يردّ ما نقص منها قانونٌ أو نظام ، ولو كان هذا من المُعينات المّادية المهمة التي لا ننكرها ؛ وإنما هي بعِظم رسالتهم المُستمدة من إرث النبوّة ونُبل آثارها الشريفة ، وبما يكون عليه المعلم من قيم الأمانة والصدق والعطاء ، وامتثال القدوة الحسنة بصلاح أخلاقه أمام تلاميذه ؛ وإذا نَكَص المجتمع كلُّه عن هذا فلا يُتوقّع – أبداً - من المعلمين مهما تعاظمت مشاكلهم المادّية أو رأوْا هضْماً لحقوقهم ، وليسيروا – كما قال أهل العلم – وَفق الطرق الشّرعيّة والقواعد المرعيّة .
على نقابة المعلمين إدراكُ الواقع في مدارسنا ، واستجلاء المُشكلات التربوية والتعليمية فيها كأولوية هامّة تتقدّم أيّ شيء آخر ، والقيام بدورها الرئيس في تطوير القدرات الفنيّة الذّاتية للمدراء و المعلمين ، وإجراء البحوث والدّراسات التحليلية حول مُعضلات البيئة المدرسيّة الدّاخلية المسئولة عن تردّي الأوضاع التعليمية ودخولها في هوّة سحيقة ونفقٍ مُظلم .
لقد حصل المعلمون على شيء من حقوقهم المادّية والمعنويّة في الآونة الأخيرة ، واستبشر العقلاء خيراً أن تتقدم مدارسنا بتربية أبنائنا على الوجه الذي يرضاه ربّنا عزّ وجل لنا ؛ فهل هذا – أو شيء منه – قد وقع ؟ سؤالٌ نُلقيه على مسامع أهل العدل والإنصاف ، بعيداً عن التهويل والتهوين والإرجاف ! .
الامتناعُ عن العمل المُتفق عليه لمدّة محدّدة - أو غيرِ محدّدة – بقصد الحصول على مكاسبٍ مُعيّنة كالزيادة في الأجر ، أو كان لردّ اجراءٍ قرّره أو أدخله الطرف الآخر في العقد ؛ بات اليوم من الوسائل المُشتهرة والمُنتشرة – لا سيّما لدى الهيئات والنقابات العمّاليّة – ويُطلق عليها اسم الإضراب ؛ ولا شكّ أنّها اخلالٌ بعقد الإجارة وتعطيلٌ للمنفعة التي صِيغَ العقدُ من أجلها ؛ لكنّ البعض يبيحها بالربط لها مع مشروعيّة الغاية أو المصالح المطلوبة ، على القاعدة المعروفة : الغاية تبرّر الوسيلة ؛ فما هو حكم الشريعة فيها ؟ .
إذا كان الحديث عن إضراب المعلمين الجاري هذه الأيام من قبل نقابتهم فإنّ التصوّر السليم للمسألة مُيسّرٌ لمن هو أهلٌ للبحث فيها ، إذ الجوانب المُعينة على هذا كثيرة ومتوافرة ؛ فقطاع التربية والتعليم من أكبر الفئات الوظيفية في أيّ بلدٍ ، وعمله متعلِّقٌ – أساساً – بكلّ هيئات المجتمع من أفرادٍ ومؤسسات ، وذو أثرٍ خطير على بناء الدّولة الأخلاقي والاقتصادي وحتى أمنه واستقراره ، وهذا ليس خافياً على أحد ؛ ولذا كلّه فإنّ طروء أيّ حادثٍ على مثل هذا القطاع فلا بدّ أنْ يكون مُنعكساً – بصورةٍ كبيرة – على أوضاع الدّولة برُمّتها ، على خلاف ما لو كان ذلك الحادث في قطاع مهنيّ آخر أقلّ شأناً ؛ الأمر الذي أراهُ – والله أعلم – ذا أثرٍ بالغٍ في الحكم الشّرعي على إضراب المعلمين عن تدريس الطلبة كوسيلةٍ للضغط على الحكومة في سبيل تحقيق مطالبها والوصول لغاياتها .
نعلمُ – ابتداءً – أنّ كثيراً مِن المعلّمين سَيَلْقوْن مضمون المقالة بنوعِ ازدراءٍ وشيء من الاستخفاف ؛ لكنّنا نربأ بهم أنْ يكونوا ساخرين مُستهزئين ، ونبرأ إلى الله – تعالى – إن كانوا فاعلين ؛ فالوارد فيها جُلّه من كلام علماء لَوَت أيديهم قراطيسُ العلم ، وانحنت في مجالسه ظهورُهم ، ورفع اللهُ في الناس ذكْرَهم وأعلى قدْرَهم ، ولقد رأيتُ من السلامة لي أنْ تكون أكبر مساحات الكلام – هنا – لتأصيلاتهم العلميّة في بحث المسائل العصريّة كهذه التي بين أيدينا ، ولا يعني ما يتمُّ تقريره من أحكام الإضراب عندهم أنّهم - ومن يتبناها – هم منكرون لِما للمعلمين من حقوقٍ مادّية و معنويّة ، أو أنهم يغضون الطرف عمّا قد يكون ظلماً واقعاً بهم ؛ لكنّ الحديث عن الوسائل المُتّبعة في تحصيل الحقوق أو ردّ الظلم ، وليس وقوفاً مع جهةٍ ضدّ أخرى أو انتصاراً لها بأيّ حال ، فنحن أبناء وطن واحد والواجب تقديم المصلحة العامة لبلدنا ودفع الشّرور عنها ما أمكن لهذا سبيل ولو كان على حسابِ إغماضنا – ولو مؤقتاً - عن مصلحةٍ فئوية ، أو تحمّل ما نراه نوْعاً من الظلم يلحق بنا ، مع الاحتفاظ بحقّ التمسّك بالمطالبات وفق المسالك التي تقينا مزالق الوقوع في الفتن والفوضى والارتباك على مستوى المجتمع الأردني كُلّه ، ولا تُلحق الضرر بأحدٍ منهم لا سيّما إن كانوا هم عدّة المستقبل من أبنائنا الطلبة .
إنّ الامتناع عن تدريس الطلّاب منْعٌ لحقوقهم الأساسية من تربية وتعليم ورعاية ، وهذا يتضمن ظُلماً لهم ، ناهيك عن حدوث المشكلات المتعلّقة بالأسَرة واضطراب أوضاعها النفسيّة والاجتماعية ؛ فإذا كانت نقابة المعلمين ترى في الإضراب وسيلة فاعلة لنيل المكاسب أو دفع ما تراه ظُلماً للمعلمين وبَخْساً لحقوقهم فإنهم بهذا إنما يردّون الظلم بالظلم ؛ والقاعدة الأصوليّة تقول : ' الضرر لا يُزالُ بضررٍ مثله ولا أكبر منه ' ؛ وهذا ما لا يُقرّه شرعٌ أو عقل ، بل الإضرابُ عن العمل على تحريمه عامّةُ أهل العلم ؛ يقول العلّامة علي بن حسن الحلبي – ناصحاً المعلّمين – تحديداً - : ولقد أخْبَرَنا رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بوحيٍ مِن ربِّه - تعالى- عمّا يُشبهُ هذه الحالَ - فيما لو كانت مَطالبُ المعلِّمِين حقًّا خالصاً-؛ فقال - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في الحديثِ المُتَّفَقِ على صحَّتِهِ عن ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -:
' ستكونُ أَثَرَةٌ وأُمورٌ تُنكِرُونَها '
قالوا : يا رسولَ الله! فما تأمُرُنا ؟
قال : ' تُؤدُّونَ الحقَّ الذي عليكم، وتسألونَ الله الذي لكم '
فقدَّمَ النبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - (الحقَّ) الذي أنتُم مُطالَبُونَ به على (.....) الذي أنتُم تُطالِبُونَ به .
فلماذا تجعلُونَ أنفُسَكُم - أيُّها المُربُّون- رعاكُمُ اللهُ - بامتناعِكُم هذا - قُدْوَةً غيرَ حسنةٍ ولا صالحةٍ لطُلَابِكُم وأبنائِكُم ومجتمعِكُم؟ فضلاً عن مخالفةِ هديِ رسولكم الكريم - صلَّى الله عليه وسلم- الشريف، وأدبِهِ اللّطيف؟ .
ألا فلْتُؤدُّوا الحقَّ الذي عليكم، ولْتَسْأَلُوا ربَّكُم – سُبحانَهُ - الذي لكم؛ ولْتَسيرُوا – لتحقيق مطالبكم- وَفْقَ طريقٍ مُنضبِطٍ لا يُخالفُ شرعَ ربِّكُم الرحيم .
و قال الإمام ابن عثيمين - رحمه الله - في كتابه ' فقه السياسة الشرعية ' : قضية الإضراب عن العمل - سواء كان هذا العمل خاصاً أو بالمجال الحكومي - لا أعلم له أصلاً من الشريعة يبنى عليه،ولا شك أنه يترتب عليه أضرار كثيرة حسب حجم هذا الإضراب شمولاً ، وحسب حجم هذا الإضراب ضرورة .
قلت : مَن يُمعن النظر في واقع الأمّة اليوم ، وما وصلت إليه دولٌ بأكملها من الفوضى والانفلات والدّمار وضياع الأمن وشيوع الخوف ؛ فلا بدّ أنْ يفطن لأمرٍ – في موضوع الإضرابات – هو غاية في الأهميّة ، يكمن في الضرورة الشّرعيّة المُلّحة للمصالح العامّة ؛ ولا شكّ أنّ من المؤثرات سلباً – في هذا - هو لجوء النقابات والهيئات المهنية والأفراد العاملين إلى الامتناع عن العمل وتعطيله كلما أرادوا من حكومتهم زيادة في الأجر أو تعديل قانون .. ، وتنازل الدّولة – في كلّ مرّة ! - حفظاً للمصلحة العامة أو دَفْعاً لمفاسد كبيرة متوقعة ، يزيد هذا مع الاستقواء – أكثر – بما يرونه حقّاً لهم من التهديد بالتصعيد ، وهكذا – شيئاً فشيئاً – يتجرأ أيُّ أحدٍ – أيّاً كان مرادُه ! – على الدّولة ونظامها العام ، ما يُقوّي – كثيراً – الحكمَ على الإضراب بالمنع وعدم الجواز كوسيلة للمطالبة بالحقوق .
وثمّة أمر آخر يرسّخ قناعتنا بهذا الحكم ؛ ألا وهو عدمُ انضباط هذه الوسيلة بالقواعد الشرعية – أو حتى العقلية! – التي تحفظ على الفرد و المجتمع مصالحه الأساسيّة ؛ فلا ندري ما يقوله المُتحمّسون للإضراب لو أنّ الطرفين تعنتا في الموقف أو الرأي شهوراً طويلة .. أيُّ شرع – أو حتى عقل! – يرضى ببقاء أولادنا خارج مدارسهم لسنين ! ، ولو كان الإضرابُ للأطباء .. ماذا لو مات مسلمٌ بسبب امتناع طبيب عن علاجه امتثالاً لإضراب نقابته ! - كما حصل في غزّة قبل أعوام – ومن يحمل وزْره ؟ .
إنّ كرامة المعلّم لا تصنعها أموالُ الدنيا ، ولا يردّ ما نقص منها قانونٌ أو نظام ، ولو كان هذا من المُعينات المّادية المهمة التي لا ننكرها ؛ وإنما هي بعِظم رسالتهم المُستمدة من إرث النبوّة ونُبل آثارها الشريفة ، وبما يكون عليه المعلم من قيم الأمانة والصدق والعطاء ، وامتثال القدوة الحسنة بصلاح أخلاقه أمام تلاميذه ؛ وإذا نَكَص المجتمع كلُّه عن هذا فلا يُتوقّع – أبداً - من المعلمين مهما تعاظمت مشاكلهم المادّية أو رأوْا هضْماً لحقوقهم ، وليسيروا – كما قال أهل العلم – وَفق الطرق الشّرعيّة والقواعد المرعيّة .
على نقابة المعلمين إدراكُ الواقع في مدارسنا ، واستجلاء المُشكلات التربوية والتعليمية فيها كأولوية هامّة تتقدّم أيّ شيء آخر ، والقيام بدورها الرئيس في تطوير القدرات الفنيّة الذّاتية للمدراء و المعلمين ، وإجراء البحوث والدّراسات التحليلية حول مُعضلات البيئة المدرسيّة الدّاخلية المسئولة عن تردّي الأوضاع التعليمية ودخولها في هوّة سحيقة ونفقٍ مُظلم .
لقد حصل المعلمون على شيء من حقوقهم المادّية والمعنويّة في الآونة الأخيرة ، واستبشر العقلاء خيراً أن تتقدم مدارسنا بتربية أبنائنا على الوجه الذي يرضاه ربّنا عزّ وجل لنا ؛ فهل هذا – أو شيء منه – قد وقع ؟ سؤالٌ نُلقيه على مسامع أهل العدل والإنصاف ، بعيداً عن التهويل والتهوين والإرجاف ! .
التعليقات