إضرابُ المعلّمين .. وسيلةٌ ممنوعة لا تبيحها غايةٌ مشروعة !


الامتناعُ عن العمل المُتفق عليه لمدّة محدّدة - أو غيرِ محدّدة – بقصد الحصول على مكاسبٍ مُعيّنة كالزيادة في الأجر ، أو كان لردّ اجراءٍ قرّره أو أدخله الطرف الآخر في العقد ؛ بات اليوم من الوسائل المُشتهرة والمُنتشرة – لا سيّما لدى الهيئات والنقابات العمّاليّة – ويُطلق عليها اسم الإضراب ؛ ولا شكّ أنّها اخلالٌ بعقد الإجارة وتعطيلٌ للمنفعة التي صِيغَ العقدُ من أجلها ؛ لكنّ البعض يبيحها بالربط لها مع مشروعيّة الغاية أو المصالح المطلوبة ، على القاعدة المعروفة : الغاية تبرّر الوسيلة ؛ فما هو حكم الشريعة فيها ؟ .

إذا كان الحديث عن إضراب المعلمين الجاري هذه الأيام من قبل نقابتهم فإنّ التصوّر السليم للمسألة مُيسّرٌ لمن هو أهلٌ للبحث فيها ، إذ الجوانب المُعينة على هذا كثيرة ومتوافرة ؛ فقطاع التربية والتعليم من أكبر الفئات الوظيفية في أيّ بلدٍ ، وعمله متعلِّقٌ – أساساً – بكلّ هيئات المجتمع من أفرادٍ ومؤسسات ، وذو أثرٍ خطير على بناء الدّولة الأخلاقي والاقتصادي وحتى أمنه واستقراره ، وهذا ليس خافياً على أحد ؛ ولذا كلّه فإنّ طروء أيّ حادثٍ على مثل هذا القطاع فلا بدّ أنْ يكون مُنعكساً – بصورةٍ كبيرة – على أوضاع الدّولة برُمّتها ، على خلاف ما لو كان ذلك الحادث في قطاع مهنيّ آخر أقلّ شأناً ؛ الأمر الذي أراهُ – والله أعلم – ذا أثرٍ بالغٍ في الحكم الشّرعي على إضراب المعلمين عن تدريس الطلبة كوسيلةٍ للضغط على الحكومة في سبيل تحقيق مطالبها والوصول لغاياتها .

نعلمُ – ابتداءً – أنّ كثيراً مِن المعلّمين سَيَلْقوْن مضمون المقالة بنوعِ ازدراءٍ وشيء من الاستخفاف ؛ لكنّنا نربأ بهم أنْ يكونوا ساخرين مُستهزئين ، ونبرأ إلى الله – تعالى – إن كانوا فاعلين ؛ فالوارد فيها جُلّه من كلام علماء لَوَت أيديهم قراطيسُ العلم ، وانحنت في مجالسه ظهورُهم ، ورفع اللهُ في الناس ذكْرَهم وأعلى قدْرَهم ، ولقد رأيتُ من السلامة لي أنْ تكون أكبر مساحات الكلام – هنا – لتأصيلاتهم العلميّة في بحث المسائل العصريّة كهذه التي بين أيدينا ، ولا يعني ما يتمُّ تقريره من أحكام الإضراب عندهم أنّهم - ومن يتبناها – هم منكرون لِما للمعلمين من حقوقٍ مادّية و معنويّة ، أو أنهم يغضون الطرف عمّا قد يكون ظلماً واقعاً بهم ؛ لكنّ الحديث عن الوسائل المُتّبعة في تحصيل الحقوق أو ردّ الظلم ، وليس وقوفاً مع جهةٍ ضدّ أخرى أو انتصاراً لها بأيّ حال ، فنحن أبناء وطن واحد والواجب تقديم المصلحة العامة لبلدنا ودفع الشّرور عنها ما أمكن لهذا سبيل ولو كان على حسابِ إغماضنا – ولو مؤقتاً - عن مصلحةٍ فئوية ، أو تحمّل ما نراه نوْعاً من الظلم يلحق بنا ، مع الاحتفاظ بحقّ التمسّك بالمطالبات وفق المسالك التي تقينا مزالق الوقوع في الفتن والفوضى والارتباك على مستوى المجتمع الأردني كُلّه ، ولا تُلحق الضرر بأحدٍ منهم لا سيّما إن كانوا هم عدّة المستقبل من أبنائنا الطلبة .

إنّ الامتناع عن تدريس الطلّاب منْعٌ لحقوقهم الأساسية من تربية وتعليم ورعاية ، وهذا يتضمن ظُلماً لهم ، ناهيك عن حدوث المشكلات المتعلّقة بالأسَرة واضطراب أوضاعها النفسيّة والاجتماعية ؛ فإذا كانت نقابة المعلمين ترى في الإضراب وسيلة فاعلة لنيل المكاسب أو دفع ما تراه ظُلماً للمعلمين وبَخْساً لحقوقهم فإنهم بهذا إنما يردّون الظلم بالظلم ؛ والقاعدة الأصوليّة تقول : " الضرر لا يُزالُ بضررٍ مثله ولا أكبر منه " ؛ وهذا ما لا يُقرّه شرعٌ أو عقل ، بل الإضرابُ عن العمل على تحريمه عامّةُ أهل العلم ؛ يقول العلّامة علي بن حسن الحلبي – ناصحاً المعلّمين – تحديداً - : ولقد أخْبَرَنا رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بوحيٍ مِن ربِّه - تعالى- عمّا يُشبهُ هذه الحالَ - فيما لو كانت مَطالبُ المعلِّمِين حقًّا خالصاً-؛ فقال - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في الحديثِ المُتَّفَقِ على صحَّتِهِ عن ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -:
" ستكونُ أَثَرَةٌ وأُمورٌ تُنكِرُونَها "

قالوا : يا رسولَ الله! فما تأمُرُنا ؟

قال : " تُؤدُّونَ الحقَّ الذي عليكم، وتسألونَ الله الذي لكم "

فقدَّمَ النبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - (الحقَّ) الذي أنتُم مُطالَبُونَ به على (.....) الذي أنتُم تُطالِبُونَ به .

فلماذا تجعلُونَ أنفُسَكُم - أيُّها المُربُّون- رعاكُمُ اللهُ - بامتناعِكُم هذا - قُدْوَةً غيرَ حسنةٍ ولا صالحةٍ لطُلَابِكُم وأبنائِكُم ومجتمعِكُم؟ فضلاً عن مخالفةِ هديِ رسولكم الكريم - صلَّى الله عليه وسلم- الشريف، وأدبِهِ اللّطيف؟ .

ألا فلْتُؤدُّوا الحقَّ الذي عليكم، ولْتَسْأَلُوا ربَّكُم – سُبحانَهُ - الذي لكم؛ ولْتَسيرُوا – لتحقيق مطالبكم- وَفْقَ طريقٍ مُنضبِطٍ لا يُخالفُ شرعَ ربِّكُم الرحيم .

و قال الإمام ابن عثيمين - رحمه الله - في كتابه " فقه السياسة الشرعية " : قضية الإضراب عن العمل - سواء كان هذا العمل خاصاً أو بالمجال الحكومي - لا أعلم له أصلاً من الشريعة يبنى عليه،ولا شك أنه يترتب عليه أضرار كثيرة حسب حجم هذا الإضراب شمولاً ، وحسب حجم هذا الإضراب ضرورة .
قلت : مَن يُمعن النظر في واقع الأمّة اليوم ، وما وصلت إليه دولٌ بأكملها من الفوضى والانفلات والدّمار وضياع الأمن وشيوع الخوف ؛ فلا بدّ أنْ يفطن لأمرٍ – في موضوع الإضرابات – هو غاية في الأهميّة ، يكمن في الضرورة الشّرعيّة المُلّحة للمصالح العامّة ؛ ولا شكّ أنّ من المؤثرات سلباً – في هذا - هو لجوء النقابات والهيئات المهنية والأفراد العاملين إلى الامتناع عن العمل وتعطيله كلما أرادوا من حكومتهم زيادة في الأجر أو تعديل قانون .. ، وتنازل الدّولة – في كلّ مرّة ! - حفظاً للمصلحة العامة أو دَفْعاً لمفاسد كبيرة متوقعة ، يزيد هذا مع الاستقواء – أكثر – بما يرونه حقّاً لهم من التهديد بالتصعيد ، وهكذا – شيئاً فشيئاً – يتجرأ أيُّ أحدٍ – أيّاً كان مرادُه ! – على الدّولة ونظامها العام ، ما يُقوّي – كثيراً – الحكمَ على الإضراب بالمنع وعدم الجواز كوسيلة للمطالبة بالحقوق .

وثمّة أمر آخر يرسّخ قناعتنا بهذا الحكم ؛ ألا وهو عدمُ انضباط هذه الوسيلة بالقواعد الشرعية – أو حتى العقلية! – التي تحفظ على الفرد و المجتمع مصالحه الأساسيّة ؛ فلا ندري ما يقوله المُتحمّسون للإضراب لو أنّ الطرفين تعنتا في الموقف أو الرأي شهوراً طويلة .. أيُّ شرع – أو حتى عقل! – يرضى ببقاء أولادنا خارج مدارسهم لسنين ! ، ولو كان الإضرابُ للأطباء .. ماذا لو مات مسلمٌ بسبب امتناع طبيب عن علاجه امتثالاً لإضراب نقابته ! - كما حصل في غزّة قبل أعوام – ومن يحمل وزْره ؟ .

إنّ كرامة المعلّم لا تصنعها أموالُ الدنيا ، ولا يردّ ما نقص منها قانونٌ أو نظام ، ولو كان هذا من المُعينات المّادية المهمة التي لا ننكرها ؛ وإنما هي بعِظم رسالتهم المُستمدة من إرث النبوّة ونُبل آثارها الشريفة ، وبما يكون عليه المعلم من قيم الأمانة والصدق والعطاء ، وامتثال القدوة الحسنة بصلاح أخلاقه أمام تلاميذه ؛ وإذا نَكَص المجتمع كلُّه عن هذا فلا يُتوقّع – أبداً - من المعلمين مهما تعاظمت مشاكلهم المادّية أو رأوْا هضْماً لحقوقهم ، وليسيروا – كما قال أهل العلم – وَفق الطرق الشّرعيّة والقواعد المرعيّة .

على نقابة المعلمين إدراكُ الواقع في مدارسنا ، واستجلاء المُشكلات التربوية والتعليمية فيها كأولوية هامّة تتقدّم أيّ شيء آخر ، والقيام بدورها الرئيس في تطوير القدرات الفنيّة الذّاتية للمدراء و المعلمين ، وإجراء البحوث والدّراسات التحليلية حول مُعضلات البيئة المدرسيّة الدّاخلية المسئولة عن تردّي الأوضاع التعليمية ودخولها في هوّة سحيقة ونفقٍ مُظلم .

لقد حصل المعلمون على شيء من حقوقهم المادّية والمعنويّة في الآونة الأخيرة ، واستبشر العقلاء خيراً أن تتقدم مدارسنا بتربية أبنائنا على الوجه الذي يرضاه ربّنا عزّ وجل لنا ؛ فهل هذا – أو شيء منه – قد وقع ؟ سؤالٌ نُلقيه على مسامع أهل العدل والإنصاف ، بعيداً عن التهويل والتهوين والإرجاف ! .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات