سكر مقروء عليه


عندكم توجيهي يا جبر ... تنذكر ما تنعاد يا إنسان، وما صدّقنا وخِلصنا منه. يا عزيزي، قصدت أحد أبناءك أو إحدى بناتك يا جبر. يا سيدي إحنا عندنا توجيهي وغدأً أول يوم تقديم ودخلت على يزن فوجدته رافع رجليه فوق الطاولة وبيسّمع لحاله وعرضت عليه أن أراجع معه، ومن باب الدعابة قلت لأم يزن: حضرتي السُكر المقروء عليه، فأستغرب الجميع وكاني بحكي صيني.
تبسمَّ جبر، وكأني استطعت بجملة قصيرة أن أعود به سنوات عديدة إلى الزمن الجميل في جبل الطهطور، فقال: دعني أذكرك بالخالة أم مُحسن ... جارتنا العزيزة، فهي من كانت تحضَّر لنا السُكر والماء قبل الإمتحان.
كانت أم مُحسن تضع السُكر في حلّة أو طنجرة وتتوضأ وتلبس اليانس وتقعد للصلاة أمام الحلة وتضع الإبهام في السُكر وتبدأ بقراءة سورة (يس) وعدد آياتها (83) والتي يتكرر فيها كلمة (مُبين) سبع مرات. وللعارفين بالديانات السماوية، فإن الرقم (7) محبب عند الله عز وجل فالطواف حول الكعبة المشرّفة هو سبع مرات والسعي بين الصفى والمروة سبعاً وخلق الله الأرض والسموات في ستة أيام وأستوى على العرش في اليوم السابع. ويبدو ان هناك حكمة إنسانية من إلتقاط ذكر كلمة (مُبين) سبع مرات في سورة يس ليتم تعظيمها بتكرارها في التعبد والدعوة لحبيب.
المرة الأولى التي يرد فيها ذِكر كلمة مبين هو في الآية رقم (12) بقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ . فتقوم الخالة أم محسن بالقراءة حتى هذة الآية وتتوقف لتعيد الكرَّة من البداية حتى المرة الثانية التي ترد فيها كلمة مُبين وهي في الآية رقم (17) بقوله تعالى: وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ. ومن ثم تتوقف أم مُحسن لتعيد القراءة من البداية وحتى الآية التالية التي يرد فيها ذكر كلمة مُبين وهي الآية رقم (24) بقوله تعالى: إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ. ثم تعود للقراءة من بداية السورة حتى تتوقف مجدداً عن كلمة مُبين والتي يرد ذكرها في الآية رقم (47) بقوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ. وتبقى الخالة أم مُحسن في وضعيتها هذه وبخشوع تام لتتابع القراءة بدون توقف ومنذ البداية مرة أخرى حتى تصل الى كلمة مُبين التي يرد ذكرها للمرة الخامسة في الآية رقم (60) بقوله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ. ثم تعيد الكرّه من بداية الآية الكريمة حتى تصل مجدداً الى الآية رقم (69) بقوله تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ. وبهذا تكون الحاجة أم محسن قد قرأت أجزاء متتالية من السورة وأكدت وقوفها على كلمة مبين وبهذا التكرار تكون قد وصلت الى المرة الأخيرة عند الآية رقم (77) بقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ. وتتكرر القراءة من البداية لتصل أخيراً الى الآية الأخيرة بقوله تعالى: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
إن الجلوس على الأرض وتكرار القراءة بخشوع من قبل الخالة أم مُحسن على الُسكر أو الماء كان يتطلب جهداً مضنياً والقصد منه لم يكن إلا نوعاً من التشجيع لنا على الدراسة وسهر الليالي. فكلنا كان يعرف بأن أمهاتنا لا يستطعن الحفظ عنا ولكنهن كانوا يسهرون معنا ونشعر نحن بالجهد العظيم الذي كن يفعلنه لتشجيعنا لتحصيل أفضل النتائج في التوجيهي وكنوع من التضامن مع الجيران، فكل الحارة مشغولة بالحدث ويعمل الجميع ليساهم في نجاح أبنائهم وبناتهم. ولا أنسى يوم أكلت معلقة من السكر من يدي أم مُحسن وأنا في طريقي إلى قاعة الجلوس في مدرسة رغدان وأحتفظت بها في فمي طوال الطريق لأمتص كل حبة سُكر مقروء عليها بآيات من الذكر الحكيم.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات