المعشر : الاردن يشهد مراهقة سياسية


جراسا -

من اهم المعايير لنجاح اية عملية تحولية في مجتمع ما، إدراك ضرورة توفر عنصر التشاركية والتوافق، لدى البت في بعض التشريعات المفصلية، التي ستحدد مستقبل البلاد واستقرارها السياسي والمجتمعي.

هناك بعض التشريعات كالدساتير وقوانين الانتخابات، التي لا يمكن ان تكون ملكا لحكومة معينة، حتى وإن كانت هذه الحكومة منتخبة من الناس، فما بالك بحكومات غير منتخبة، تعتقد أنها تستطيع فرض رأيها بالقوة، كما كان عليه الحال في الزمن الغابر.

ولهذا، فإن عملية كتابة دستورين، تونسي ومصري، جديدين مثلا، لا يمكن ان يتكللا بالنجاح، ان لم تتبع عملية توافقية، بحيث تشترك في وضع الدستورين، كافة فئات المجتمع، بمكوناته السياسية والمجتمعية.

إن اتباع مبدأ الإقصائية في تمرير مثل هذه التشريعات، حتى ولو كانت هناك أغلبية برلمانية تسمح بذلك، تصرف غير حكيم، لن ينتج عنه استقرار سياسي او مجتمعي. وقد وعت كافة الفئات في تونس هذه الحقيقة، فسعت الى دستور جديد توافقي بعيدا عن حسابات الأغلبية والأقلية، المحكومة بلحظة معينة في التاريخ، تتبدل بتغير الظروف. وحين كان باستطاعة حزب النهضة تمرير ما يريد كإقرار الشريعة الاسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع، ارتأى في النهاية العدول عن ذلك حتى يحافظ على التوافق المجتمعي فاكتفي بالنص الاصلي للدستور بأن دين الدولة هو الاسلام.

لهذا ايضا توافقت معظم القوى السياسية والدينية في مصر، بما في ذلك حزب العدالة والحرية وحزب النور الاسلاميان، على وثيقة خرجت باسم الازهر، تنادي بدولة مدنية تعددية، يكون الشعب وحده فيها مصدر السلطات، مكتفية باعتماد مبادئ الشريعة الاسلامية (وليست الشريعة نفسها)، مصدرا رئيسيا للتشريع، حفاظا ايضا على الوحدة المجتمعية.

اما الوضع لدينا، فمختلف تماما، حكومات غير منتخبة، لا تشعر بحرج بسن مسودات عدة لقوانين انتخابات، ستحدد مستقبل البلاد ونجاح العملية الاصلاحية من فشلها، دون وجود حد ادنى من التشاور مع المجتمع. وبصريح العبارة، فإن قانون الانتخاب لا يجوز ان يكون ملكا لحكومة الدكتور فايز الطراونة، او الدكتور عون الخصاونة او الدكتور معروف البخيت. ينبغي ان يكون القانون ملكا لكافة فئات المجتمع، تشعر أنها اشتركت في وضعه، فتدافع عنه وتحميه.

مبدأ التشاركية والتوافق اساس لإقرار قانون الانتخاب، اما ما نشهده اليوم، فهو نهج إقصائي يتباهى بذلك، نهج لم يدرك بعد ان الدنيا تغيرت، وأنه لم يعد من الممكن إدارة البلاد دون أخذ رأي العباد، آملا عدم استغفال الناس عن طريق الادعاء بأن القانون أقر من قبل سلطة تشريعية، انتخبت اصلا وفق قانون، ليس بعادل ولا ممثل، واثر تدخلات لم تعد خافية على أحد.

دعونا نستعرض مراحل إقرار القانون منذ بداية الربيع العربي، لنرى إن كانت نية الاصلاح السياسي متوفرة حقا لدى الدولة الاردنية فعلا لا قولا. فقد شكل جلالة الملك لجنة الحوار الوطني في شهر آذار "مارس" من العام الماضي أتت ممثلة لفصائل عدة من المجتمع، مهمتها وضع قانون انتخاب توافقي. وما أن انتهت من توصياتها حتى وضعت هذه التوصيات على الرف، جنبا الى جنب مع توصيات لجان ملكية وطنية اخرى، لتقترح حكومة الدكتور معروف البخيت صيغة، لم تفسر لنا من اين اتت، وهي ثلاثة اصوات لكل مواطن على مستوى المحافظة وصوت لقائمة وطنية من عشرين مقعدا. ثم رحلت هذه الحكومة لتقترح حكومة الدكتور عون الخصاونة صوتين لكل مواطن على مستوى المحافظة، وصوتا لقائمة وطنية تم تخفيضها الى خمسة عشر مقعدا. اما النتيجة النهائية فهي إقرار قانون، اعاد البلاد لما كان عليه الحال سابقا، من صوت واحد على مستوى الدائرة، مع جائزة ترضية تتمثل بصوت لقائمة وطنية من سبعة عشر مقعدا، بعد زيادة عدد مجلس النواب، لتخفيف الاثر السياسي للقائمة، وصولا الى تدخل جلالة الملك، ليتم زيادة القائمة الوطنية الى سبعة وعشرين مقعدا، من اصل مائة وخمسين مقعدا للمجلس الجديد. هل يحتاج احد لأي تحليل معمق ليستنتج ما إذا كان ما سبق يشكل خطا بيانيا يسير باتجاه الاصلاح أم عكسه؟ أم أن استغفال الناس أو عدم الالتفات لأي حد ادنى من التوافق وصل الى حدود غير مسبوقة؟

اتوقف عند ملاحظتين: الاولى ان الشعب الاردني لم يتغير في السنتين الماضيتين، بل اربع حكومات هي التي تغيرت، وبالتالي لا يستطيع احد الادعاء ان قانون الانتخاب تمت صياغته بالتوافق بعد كل هذه الصيغ المختلفة، والتي تختلف بدورها عما توصلت اليه لجنة الحوار الوطني. والملاحظة الثانية هي أن هذا التراجع الواضح خلال السنتين الاخيرتين بين مختلف الصيغ انتهى بصيغة تعيد انتخاب اثنين وثمانين بالمائة من مجلس النواب وفق الصيغة القديمة التي ادت الى فقدان اكثر من خمسة وثمانين بالمائة من الشعب الاردني ثقتهم بمجلس النواب. كما ستؤدي الى انتخاب قوائم وطنية شبه خالية من الدسم بعد اعلان الحزب الأكبر في البلاد وهو جبهة العمل الاسلامي نيته مقاطعة الانتخابات. بمعنى آخر، لن ينتج عن الانتخابات لا مجلس نواب قوي ولا حكومات منتخبة عن طريق الاغلبية البرلمانية كما يريد جلالة الملك، ولا إعادة توزيع جادة للسلطات. ومتى ما ادرك الاردنيون ذلك بعد اشهر قليلة من الانتخابات القادمة، أو نزل الاخوان للشارع بدلا عن قبة البرلمان، ماذا نحن فاعلون؟

لم تعد فزاعة الاخوان مقنعة، لما كانت الدولة مستعدة لقبول ثلاثة اصوات على مستوى المحافظة ايام حكومة د.معروف البخيت، وهو الآتي من خلفية امنية، إن كان صحيحا ان الاسلاميين سيفوزون بأغلبية المجلس؟ إن الاستقرار المنشود لن يأتي عن طريق السياسات الاقصائية التي ستدفع قوى عدة للشارع. سياسات كهذه لن تؤدي الا لمزيد من القراءات الخاطئة والاحتقان والتأزيم في وقت نحن بأشد الحاجة للحكمة السياسية والمشورة بعيدة النظر.

لقد اصبح واضحا أن المعارضة لهذا القانون غير الاصلاحي ولا الجاد ليست مقتصرة على الاخوان كما تروج الحكومة، بل هناك قوى وأشخاص من رحم النظام تعارض القانون مثل عبد الهادي المجالي وطاهر المصري واغلب الاحزاب والقوى السياسية في البلاد. ايصدق احد ان رئيس مجلس الاعيان ذهب في اجازة خاصة خارج البلاد بينما المجلس الذي يرأسه يناقش قانون الانتخاب لولا عدم رضاه عما يجري؟ متى صوت اربعة عشر عضوا من مجلس الأعيان المعين بالكامل من جلالة الملك ضد أي قانون ترغب به الحكومة بما في ذلك معاهدة السلام الاردنية الاسرائيلية؟

اين الحكمة السياسية في دوائر صنع القرار العليا في الدولة ممن تشير على جلالة الملك؟ الا يوجد من يرى خطر هذه السياسات الإقصائية؟ هل يتجنى البعض حين يزعم ان البلاد تشهد مرحلة مراهقة سياسية لم تعرفها من قبل؟ أو ليس مشروعا بل على كل لسان ان الدائرة حول جلالة الملك بحاجة ماسة الى توسعة حتى يستمع جلالته الى مختلف الآراء الغيورة ايضا على مستقبل البلد؟ ام أن الاردن بعد كل ما قطع من اشواط في نهضته بات يضيق بآراء ابنائه؟

لم يعد خافيا ان دائرة صنع القرار تسيطر عليها العقلية الامنية، وان عدد مستشاري جلالة الملك السياسيين، ممن يتمتعون ببعد نظر سياسي قلة للغاية، وإلا كيف نفسر ما يجري من حولنا؟ متى شهدنا إقرار قوانين، ثم العودة لتعديلها في غضون أيام؟ يستحق جلالة الملك منا، افضل من قرارات لا يتم دراستها جيدا، قبل وقوع الواقعة، ثم يبذل الجهد لإصلاح ما افسدته القرارات ذاتها. كما قضايا الوطن لا تحل بالعنتريات الزائفة والقرارات، التي لا تأخذ بعين الاعتبار آراء الناس.

ان الزاوية الامنية جزء مهم من عملية صنع القرار، ولكن لا يجوز لها قيادة هذه العملية، لأن بناء الدولة الحديثة يحتاج الى مدخلات كثيرة، لا يشكل المدخل الامني الا واحدا منها.
مؤسف ما وصلنا اليه، ومؤسف اكثر، بل خطر، الإصرار على مثل هذه السياسات الاقصائية.

( مروان المعشر  نائب رئيس الوزراء الأسبق - الغد)



تعليقات القراء

ابو ثائر
يسلم لسانك وفكرك النير ليش يا فايز الطراونه ما توخذ هالكلام وتستفيد منه ولا العنجهيه واستبداد الرأي افضل
15-07-2012 01:38 AM
ابو ثائر
تستحق ان تكون رئيس وزراء بجداره يا ريت يفهموا كلامك
15-07-2012 02:07 AM
المشكلة انك كنت نائب رئيس وزرا ...
عزيزي نحن لم نسمع يوما واحدا أيام ما كنت أنت بالسلطة تتكلم عن إصلاح ولم تبدي رأيك بوما بالخصخصة والإشارة الى الفساد أو أخطاء معينة تحدث... لماذا صمت اكثر عقدين وانت نائب رئيس وزراء سابق. أعتقد انك ومن مثلك أصبح مكشوف وتلعبون على أكثر من دفه وركبت الموجه. أقسم بانك زعلان أنت يا معشر من عدم توليك رئيس وزراء ولو استلمتها ستكون مثلك مثلهم ..بكفي ياخي كلكوا دمرتوالبلد .. اشي بقررررررر...
15-07-2012 02:17 AM
اياس
رائع و كلام في غاية الدقة
15-07-2012 03:12 AM
مقاطع للانتخابات
اقسم بالله كلامك بعبي الدماغ ، يسلم ثمك ، كفيت ووفيت . مقال رائع جدا ومعبر
15-07-2012 07:03 AM
منذر
يا زلمة قاعد بأميركا وجاي تنظر علينا من برة؟ وشفناك ايام ما كنت مستلم وزارات شو سويت؟ طبعا لا شيء فحل عنا عاد
15-07-2012 07:23 AM
مراقب محايد .
إنّ الذين مارسوا ولا يزالون يمارسون سياسة تضليل ولاة الأمر التي أوقعتهم في الأخطاء والخطايا ودمرت البلاد والعباد هم مجرد رويبضات وسماسرة وطفيليات تسللوا إلى مواقع المسؤولية , وحازوا على ثقة ولي الأمر ولم يكونوا يملكون أبسط مؤهلات رجال الدولة المتمثّل بالإحساس بالحد الأدنى من المسؤولية والشعور بالانتماء للوطن , فعاثوا فسادا وإفسادا في كلّ موقع طيلة عقود حتى تعالت الأصوات في الفترة الأخيرة شاكية من الذين يديرون الأوطان بعقلية مديري الشركات , وهؤلاء بكلّ ألم لا يهمهم إلاّ شيء واحد هو تحقيق المكاسب والمنافع الشخصية التي يسعون لاحتكارها غير آبهين لخطورة ذلك على كيان الوطن : إمّا لجهلهم بأبسط حقائق علم الاجتماع , وإمّا لعدم اهتمامهم بالنتائج لأنّهم يفتقرون إلى الانتماء الحقيقي , وإمّا لأنّهم يسعون لتدمير الوطن اقتداء بسلفهم .. ابن العلقمي الذي تآمر على دولة بني العباس وسلمها للتتار .
ومما زاد الطين بلّة أن المنافسين أو المناكفين لهذا الصنف من هؤلاء العلاقمة والبرامكة في إدارة شؤون الدولة هم فئة محكومة بعقلية أمنية , فضاع الوطن بين العقلية الأمنية القائمة على إغلاق فوهة البركان بأيّ وسيلة غير مدركة للتفاعلات التي تجري في الباطن , وعقلية السمسار الذي يريد بيع كلّ شيء في سبيل الحصول على العمولة , وأمّا الذين يملكون مواصفات رجل الدولة فقد أبعدوا عن إدارة الشؤون العامّة ومن أقترب منهم من مركز صنع القرار تآمر عليه طرفا الكارثة حتى فشل !!
15-07-2012 07:24 AM
تصدير
يا سلام شو هالمقالات كثرانة هالايام
15-07-2012 07:28 AM
متابع
تحليل ممتاز للأمور من الدكتور المعشر.. أنا أيضا أحد الأشخاص الذين قرروا مقاطعة الإنتخابات البرلمانية مع أني لست إسلاميا شأني في ذلك شأن الكثيرين الذين يرفضون أن يمثلهم مجلس نواب مسخ كالمجلس الحالي ببلطجيته وزعرانه.
15-07-2012 08:21 AM
مجمد مجمود
الاقصائية عنا في كل شي حتى اذا بتختلف مع مديرك بالشغل ... بذبحك
15-07-2012 08:52 AM
وانا مقاطع للانتخابات
انا وعائلتي وأصدقائي ومجموعة من التجار واصحاب محلات سناقطع الانتخابات لاننا لانثق بعد الان بأي مجلس نواب ملاكين ومستثمرين واصحاب أسكانات وأصحاب مطاعم وأصحاب كوفي شوب وبيتحكمو بمصير شعب وضرونا بقانون المالكين والهالكين وفصلو قانون على مقاس المالكين وتحية للسيد مروان المعشر على هذا المقال الرائع
15-07-2012 09:50 AM
دعيجية
عاليوم لو يحطوك رئيس وزراء
15-07-2012 02:57 PM
بلقاوي
"البلاد تشهد مرحلة مراهقة سياسية لم تعرفها من قبل"
و هي كذلك يا دوك..
15-07-2012 03:02 PM
حنان عميره
ومتى النضوج باذن الله ههههههههههه
15-07-2012 04:17 PM
لــيــــث
انا مقاااااطع للانتخابات النيابيه
بس يا معشر منت كنت نائب رئيس وزرا
ايش اللي سويته للشعب

ثورة الاردنيين بدأت و لن يوقفها شيء .... لن تتوقف حتى تحرك الفاسدين و من شجعهم على الفساد
15-07-2012 05:17 PM
انشري يا جراسا
كلامك جميل وتقول عين الحقيق ولكن بعد رسم طريق واضحه ومفصله لان الاردن يتعرض لضغوطات مرسومه لانهاء القضيه الفلسطينيه على حسابه وحساب الارض الفلسطينيه المغتصبه وقوى سياسيه غير مرتبطه باجنده اردنيه تحاول اللعب على ورقة الديمقراطيه لتمرير مشروع التصفيه.
15-07-2012 08:25 PM
الشمس ماتتغطى بغربال
الشعب صحي ومش رح يغفى ويحلم مره ثانيه وينظحك عليه ورح الكل يتحاسب بقدر ماعمله
16-07-2012 09:17 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات