سقوط الطواغيت


كان لي وقفة طويلة ، وإمعان عميق بمجريات الأمور التي تمر بالشرق العربي المتهالك .. شرق نخره السوس بفعل زعاماته وقادته ، وهم الذين نصبوا من أنفسهم فراعنة يضربون وجوه هذه الشعوب وأدبارهم ، بسياط البطش والظلم والاستبداد ، وحرموهم حتى من حرية التعبير لأكثر من ستة عقود مضت ، والشعوب منذ تلك الحقبة أي منذ طرد العثمانيين وانحسار سيطرتهم على الشرق العربي في شتى الأقطار ، وهي تجتر صاغرة ويلات حكم مستبد ، ساقت معظم قادة الفكر إلى أعواد المشانق ، وألقتهم بدهاليز التعذيب وغرف الموت سنوات طوال .
أليس من المستغرب ، أننا لم نزل نجد في عالمنا العربي دهاليز التعذيب وغرف الموت وأعواد المشانق تنتظررجالا أشداء من أصحاب الفكر وحملة أقلام الحق ، وهي مازالت معدة بأسوأ حالاتها وانعدام الضوء فيها بروائحها النتنة ، وقذارة أرجائها ، وجبروت الطغاة الذين وُكِّلوا بمهام التنكيل والقتل والتعذيب لأولئك الذين يحملون في قلوبهم بكل شجاعة وعن جدارة مطلقة ، يحملون مشعل الفكر ، وأقلام الحق لا يثنيهم التنكيل ولا التعذيب ولا القتل ولا المشانق عن حمل رسالتهم ، لأنهم يقتنعون بأنهم ماضون في سبيل الحق ، وإن أعدموا فسوف يعدمون وجباههم شامخة ، وهاماتهم مرفوعة ، لا يثنيهم عن مضائهم في هذا السبيل أي نوع من التنكيل والتعذيب والقتل .
وما أكثر ما دفع أفراد أسرهم الثمن باهضا وهم أبرياء ، وكم غيب في سبيل تلك المعتقدات من الضحايا قتلا وحرقا وشنقا .. أطفال وشيوخ ونساء لا دخل لهم جميعا إلا أنهم رضوا أن يكون عائلهم من أصحاب الفكر ومن حملة أقلام الحق .
الجبابرة في العالم العربي ، وهم المتعسفون دائما ، وهم الذين لا يتورعون عن الحكم بالحديد والنار ، لا يهمهم سوى البقاء بكراسيهم ، وتنصيب أنفسهم حكاما وهم جهلة جبناء لئام ، من غيرعلم ولا ثقافة ولا كفاءة ولا دراية ولا مهارة ولا براعة حتى لديهم بقيادة الأمة ، غير أنهم بارعون بالفعل بمزاولة البذخ واللهو والتهالك على قضاء أمتع أوقاتهم في أحضان المومسات بحانات الغرب ومواخيره ، فضلا عن ضياع مليارات الدولارات التي ينفقونها على موائد القمار في (لاس فيجاس) وغيرها من أماكن القمار واللهو والنوادي الليلية الموبوءة بالمومسات عدا عن التفنن في تعاطي المحرمات ومعاقرة الخمر مع العاهرات .
هذا الزمان العجيب .. جعلني أقف حائرا ولست وحدي ، بل وكل ذي عقل معي تقتله الحيرة والاستغراب .. وحيرته دائما مما يرى ويسمع عن تفاهات أولئك الحكام ، الذين لا همَّ لهم إلا أن يعيشوا عيشة البهائم ، ترفا وإسرافا في الأكل والشرب واللعب واللهو وإمعانا في إذلال الشعوب ، وما أكثر ما سمعت عن قادة عرب أنفقوا الملايين على هواياتهم في الصيد في جوف الصحراء ، وتسخير طائرات عسكرية كبيرة من أجل ذلك ، معدة لنقل الحطب والتجهيزات اللازمة التي تلازمهم في أماكن الصيد النائية ، حتى أن بعضهم قد يسافر مع كل تلك الإمكانيات ، ومع الحاشية والتجهيزات جميعها إلى دول أخرى مثل باكستان وغيرها من البلدان التي يكثر فيها الصيد .. من أجل إشباع نهمهم ، ومليء بطونهم من لحوم طير الحبارى الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، ولا يساوي حقيقة أكثر من دولارين .
ملايين الدولارات تنفق من موازنة الدولة .. وكل هذا من أجل مزاولة بعض الهوايات ، وأموالا تهدر من أجل ، صيد ذميم ، لبعض طيور الحبارى إن توفرت ، أو غيرها من الطيور ، وبالمقابل فإن ملايين من الشعوب تموت جوعا ، وتتضور عوزا وحاجة إلى أبسط شيء من متع الحياة ، قد يسد رمقهم أو جوعهم .
فوالله إنني اطلعت على قصة عاصرتها في إحدى الدول الخليجية الغنية ، وفي شارع ما زلت أذكر اسمه ، والحكاية .. هو أن أحد الأغنياء الخيرين ، خرج بسيارته قبل السحور لبعض الأمر ، ففوجيء بامرأة تتهاوى بجسدها ، وتلقي بثقلها على حافة حاوية قمامة ضخمة ، كانت تحاول عبثا استخراج كميات من الطعام الملقى في تلك الحاوية من أجل السحور .. وحينما اقترب ذلك الرجل منها ، انتبهت فزعة وحاولت الهرب ، لكنه استوقفها ، وأقسم لها أنه سيستر عليها لو هي صدقته القول .
وتبين من خلال الحديث أنها تعول أيتاما صغارا تقوم على تربيتهم منذ عدة سنوات ، وأن الحكومة -لا أيدها الله- ولا أيد كل حكومة على شاكلتها ، غافلة عما يجري على أرضها من بؤس وحرمان للمواطنين ، بينما تنفق الملايين كما أسلفت في مناح شتى من العالم ، وتدفع من ميزانيتها كل تكاليف الحروب والمعارك التي تفتك بالشعوب العربية المسلمة بتآمرها مع الغرب ومع أعداء الأمة .
سألها الرجل عن بيتها ، فأومأت بيدها الواهنة المرتعشة إلى باب مترهل لا يكاد يستر ما خلفه من ظواهر الفقر ، فغاب الرجل حينا ، ثم عاد وبرفقته زوجته ليهديء من روع تلك المسكينة ، وكان بحوزته ما جادت به النفس من المؤن والأرزاق ، أنزلها في باب البيت ، وتعهدها بنفقة مجزية ما دام على قيد الحياة .
ومنذ أقل من سنتين ، والقادة العرب يتساقطون الواحد تلو الآخر .. ولا يتحرج الأحياء منهم من مواصلة المسيرة التي درج عليها سلفهم من السفلة اللئام والمجرمين من الحكام ، ولم يتعظوا مما أصاب غالبيتهم من الخيبة والذل وسوء العاقبة ، ومن لم يمت قتلا وتنكيلا يمت وهو يداس بالنعال .
نيكولاي تشاوسيسكو رئيس جمهورية رومانيا .. تحدثت عنه في غير موضع ، فهو رجل أعرفه حق المعرفة ، وصافحته هو وزوجته مرة واحدة بحكم الظروف ، لقد كان ذلك الرجل مستبدا بشعبه ، ظالما لضعفائهم وفقرائهم ، مقدما الطغمة الفاسدة التي تعينه على الفساد على غيرهم من الناس . كان معروفا عنه البذخ والاسراف ، ويتصف فوق ذلك بالظلم والاستبداد كما أسلفت ، وحينما حانت الفرصة ، وضيق شعبه عليه الخناق ، حتى أنه لم يجد بدا من أن يلوذ بالفرار ركضا على الأقدام ، فقادته الأقدارإلى حقول أحد الفقراء ، الذي قبض عليه ساعتها وكان رجلا فقيرا عادي المظهر متواضع الهيئة ، وقام بتسليمه على الفور إلى الجيش ، الذي تولى تصفيته على الفور هو وزوجته ، حيث تم القاءه بحفرة محاطة ، وانهمرت عليه الرشاشات من كل جانب حتى لم يعد بجسمه هو وزوجته مدخل أبرة إلا واخترقته رصاصة .
وماذا حصل لمعمر القذافي .. الطاغية المستبد الذي لم يكن يرى من رقعة السماء قدر أنملة .. كان يصافح الرؤساء بكبرياء وشموخ وعظمة ، رافعا أنفه ووجهه دائما إلى فوق .. كيف مات ؟ ولما لم تعد تتسع له الأرض وضاقت عليه مع رحابتها ، بحث عن أقرب أنبوب لتصريف المجاري ، وربما جاءت بمخلفات أفقر الناس في ليبيا ، وجلس هناك ظانا أنه آمن وبمعزل عن الخطر ، يرنو ببصره إلى الخارج ، ليتصفح تاريخا مظلما أسودا ، وأعمالا إجرامية كانت تدور رحاها بمخيلته ، فكم قطع من الجماجم ، وكم أعدم وقتل وحرق وغيب عن الحياة أشخاصا شرفاء ؟!.
ساعة عصيبة لم ينفعه فيها الاستجداء لبضع أفراد من عناصر الثورة ، الذين كانوا مغيبين بين الركام لسنوات طويلة ، هم شباب عانوا من الويلات والذل والقهر والاستبداد والحرمان كل سني حياتهم .. فماذا هم فاعلون مع هذا الفاسد المجرم القاتل المستبد غير مافعلوا ..
وبشار الأسد الآن في سوريا .. الذي يحاول عنوة أن يقاتل حتى آخر قطرة من دمه متشبثا بحكم استبدادي قهري قائم على الفساد والبغي ، وهو يعلم في قرارة نفسه بأنه زائل لا محالة ، وأن مصيره أسود من قطع الليل ، وأمر من القطران ، وسيُقتل عما قريب على أيدٍ مجاهدة شريفة شجاعة ، عانت وذاقت من ويلات الكلب وطغمته هو وأبوه ، ولم ينس أحد من الناس أبرز تلك الأحداث ، وهي ما اقترفه عمه المجرم رفعت الأسد حينما كان يقود ما يسمى بسرايا الدفاع ، الذي لم يترك نوعا من الإجرام إلا وارتكبه ، بدءا من اغتصاب فتيات الجامعات ، وقتل المشايخ واقتحام المساجد ، ظلما واستبدادا وقهرا وقتلا وتشريدا استمر أكثر من أربعين عاما ، وحثالة الأسد يرتعون متفردين بخيرات سوريا .. مستهترين بشعب سوريا البطل الذي لم يستكن يوما للظلم ، لولا سطوة البغي وصولة الحديد والنار بكل جبروت الطغاة في سوريا المعاونين لبشار المجرم الذي يقتل شعبه الآن من أجل حفنة من الدراهم ، ومن أجل بقاء حكم وسيادة لم يقوما على العدل ولو للحظة واحدة . فمن معركة مدينة حماه التي مسحت مساجدها ومدارسها بالمدفعية والدبابات وسوت مآذنها بالأرض ، ثم أقامت بعد ذلك في أمكنة المساجد الملاهي الليلية ، ونوادي الرقص والخنا ، وحانات الخمر، ثم إلى مذبحة المسجونين في سجن المزة ، حيث قال شهود عيان ، إن الرشاشات قد مزقت ذات مساء أجساد أكثر من سبعمائة سجين مسلم ، ذنبهم أنهم شهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله .. بعد دقائق قليلة من انفضاض ذويهم من زيارتهم التي كانت هي آخر زيارة لمعقل من معاقل الظلم في سوريا.
وحكام الخليج الآن وعلى رأسهم حاكم قطر.. والذي تحدثت وكالات الأنباء عن قيامه بشراء مبنى في نيويورك بمبلغ أربعمائة مليون دولار ، وقبلها باشهر قام بتدشين مستعمرة صهيونية أقيمت على ثرى فلسطين على نفقته الخاصة ، وتراه كبقية الكثير من حكام الخليج ، فرحون بكراسيهم ، متباهين بأموالهم التي تعجز النيران العظيمة عن أكلها ، مع أنهم يعلمون في قرارة أنفسهم .. بأنهم ليسوا أهلا لها ، لأن معظمها يكنز في بنوك الغرب ، وكل من سقط منهم سيفقد تلك الأموال فور سقوطه .. ولن يستفيد منها أي كائن من تلك الشعوب المقهورة المظلومة .
وكم أتمنى .. والأماني صعبة المنال ، أن ينتبه حكام العرب جميعهم من غفلتهم ، ويمدوا أيديهم برفق ومحبة وإنسانية إلى شعوبهم ، وأن يتكفلوا بإعانة الدول الفقيرة عن طيب نفس وإحساس بالواجب الإسلامي المقدس ، وخوف من الله ، ورجاء المؤملين بأن يغفر الله لهم ما تقدم من ذنوب ، بل ويستغفروا الله أمامهم عما بدر منهم من الظلم والاستبداد ..
وكم أتمنى الآن على رجل المخابرات في دولة خليجية أعرفها وقبل أن يدركه الموت ، أن يتجه حافي القدمين إلى أسرة الضابط الذي أرسل إليه من يأسره ليلا وهو نائم في بيت أبيه ، بحفنة من روث الحيوانات توضع على فمه وأنفه ، وتعصب جيدا لئلا يسقط منها أي شيء ، فيرسل إلى السجن ويبقى كذلك بعصابته حتى اليوم التالي أو الذي يليه من أجل التحقيق معه .. بل وعليهم أيضا أن يتوجهوا قبل أن يدركهم هادم اللذات ، إلى بيوت الأسر ممن قُتل أبناؤهم على طريقة الطواغيت بإلقائهم وهم مقيدوا الأيدي والأرجل من الطائرات العامودية على علوٍّ شاهق إلى أرض تغطيها تلال من الرمال ، لتنغرس أجسادهم بتلك الرمال عشرات الأمتار وهم أحياء ، فيقضي القتيل نحبه ، وهو يواجه أبشع صور الموت التي عرفها تاريخ الإجرام ، ومع ذلك تراهم يتشدقون بالإسلام ويتقولون على خالقهم بما لم يعرفوا منه سوى مخالفة الخالق .. ويا لسوء الحظ .. فأي إسلام هذا الذي يدَّعونه ؟ فلا اليهود ولا كفار الأرض عملوا مثلما عمل حكام المسلمين بشعوبهم ، لقد برع هؤلاء القادة وتفننوا بقتل وتجويع وتجهيل الشعوب بطريقة بشعة لا يقبلها العقل ولا الوجدان ولا الضميرالإنساني ، ولم نسمع عن مثل هذه الأساليب ولو في شريعة الغاب . لقد حدث هذا الإجرام في عهد أناس هم الآن ماثلون عند ربهم ، وما زال بعض رجال مخابراتهم أحياء ربما ، فبأي آلاء يلاقون ربهم ، وما هو عذرهم عنده ؟؟.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات