مِنَ السّياسةِ .. تركُ ( السّياسَةِ !! ) .. ج3


إنّ الحمدَ لله تعالى ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا } ‏
{ ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما }

إن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل عظيم الشأن من أصول ديننا الحنيف ؛ وبه بعث الله تعالى الرسل والأنبياء ؛ حاصلُ القيام به : صلاحُ أهل الإسلام في دينهم ودنياهم ، وصالحُ ما به يستقيمُ حالُهم ، ويَصْدُقُ إيمانُهم وهي الأعمال ؛ ولو تعطّل هذا الركن في حياة الأمة لعمّ فيها فساد البلاد والعباد ، ولكان سوء المآل لها بالمرصاد .
وهو واجب على الأمة لقوله – جلّ ثناؤه - : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } ؛ وهذا أمرٌ منه – سبحانه وتعالى – والأمر يفيد الوجوب أو الفرض ، وهو – على قول أكثر المفسرين - من فروض الكفايات ؛ بمعنى ؛ أنه إذا قامت به أمة ( أي : طائفة أو جماعة ) كفى الباقين أو سقط الفرض عنهم ؛ ومن أهل العلم من ذهب إلى كونه فرض عين فيجب على كل مسلم حسب استطاعته وقدرته وتمكنه من ذلك ؛ مستدلين بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " ؛ واختلفوا فيما يسقط الوجوب على تفصيل تراه مبسوطاً في أمهات الكتب .
وقد وردت نصوصٌ كثيرة تدل على عوائد القيام بهذا الأصل العظيم ، وتحذّر من عواقب تعطيله أو تأخيره ؛ ومن ذلك :
قوله تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة }
وقال – تبارك في علاه - : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر }
وقال – صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم "
وقال – عليه السلام - : " ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده "
وقال – عليه السلام - : " إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمّهم الله تعالى بعذابه "
هذا وإن في قوله تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } أمرٌ يغفل عنه كثير ممن يستدلون بهذه الآية الكريمة في تحريرهم أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ ألا وهو الدعوة إلى الخير ؛ وقد قدّمه الله تعالى – لحكمة بالغة – على الأصل المشار إليه .
قال ابن كثير – رحمه الله تعالى – في تفسيره : " وقال أبو جعفر الباقر : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ) ثم قال : " الخير إتباع القرآن وسنتي "
وقال الطبري – رحمه الله تعالى - في تفسيره : " قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " ولتكن منكم " أيها المؤمنون " أمة " ، يقول : جماعة " يدعون " الناس " إلى الخير " ، يعني إلى الإسلام وشرائعه "
وعلى هذا تجتمع أقوال المفسرين من أهل العلم ؛ أن الخير هو كتاب الله تعالى وسنّة نبيه – صلى الله عليه وسلم – حفظاً وتعلماً وتعليماً ، وكونه مقدّماً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فهذا على وجهين :
الأول : أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في الدعوة إلى الخير ومنه ؛ كقول ابن تيمية – رحمه الله - : " الأمر بالسنة والنهي عن البدعة ؛ أمر بمعروف ونهي عن منكر " .
وهذا ظاهر ؛ فدعوة الناس إلى القيام بما أوجبه الله عليهم وتعليمهم تلك الواجبات هو أمر بالمعروف ، ودعوتهم إلى اجتناب معصية الله تعالى وبيان ذلك لهم هو نهي عن المنكر .
الثاني : أن الدعوة إلى الخير أو الكتاب والسنة تؤدي إلى فشوِّ وانتشار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين عموم المسلمين ؛ فإنهم إذا تعلموا ذلك الخير تآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، وكانوا أطوع لهذا و قابليتهم له أفضل ؛ ناهيك عن أن حاجتهم له ستكون أقلَّ بكثير جداً ؛ وهذا ظاهر أيضاً والحمد لله تعالى .
ولا يخفى أن للآية معنى أعم ؛ وهو دعوة الأمة لغيرها من الأمم إلى لإسلام ؛ وهذا أيضاً يحتاج إلى علم وبصيرة .
فيدل ما تقدّم على أن هذا الأصل العظيم من أصول الشريعة منوط بأهل العلم ومن اختصاصهم وراجع إليهم في كل حال ؛ الأمر الذي يدلنا على صفة ومعرفة ( الأمة ) أو الجماعة المذكورة في الآية .
روى ابن جرير الطبري – رحمه الله - في تفسيره عن الضّحاك أنه قال : " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " ، قال : هم خاصة أصحاب رسول الله ، وهم خاصة الرواة .
قال ابن كثير في تفسيره – وقد ذكر قول الضحاك - : " يعني : المجاهدين والعلماء "
وأيّد القرطبي عند تفسيره للآية قول من قال : " ومعناه أن الآمرين يجب أن يكونوا علماء وليس كل الناس علماء "
واستدل الشوكاني في " فتح القدير " على أن هذا الأصل من فروض الكفايات بأنه يختص بأهل العلم الذين يعرفون كون ما يأمرون به معروفا وينهون عنه منكرا .
وجاء في ( تفسير المنار ) للشيخ محمد رشيد رضا – رحمه الله - : " والمرتبة الثانية في الدعوة والأمر والنهي : هي دعوة المسلمين بعضهم بعضا إلى الخير وتآمرهم فيما بينهم بالمعروف وتناهيهم عن المنكر ، والعموم فيها ظاهر أيضا ، وله طريقان ، أحدهما : الدعوة العامة الكلية ... ببيان طرق الخير وتطبيق ذلك على أحوال الناس ، وضرب الأمثال المؤثرة في النفوس التي يأخذ كل سامع منها بحسب حاله - وإنما يقوم على هذا الطريق خواص الأمة العارفون بأسرار الأحكام وحكمة الدين وفقهه ، وهم المشار إليهم بقوله – تعالى - : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } ومن مزايا هؤلاء : تطبيق أحكام الله - تعالى - على مصالح العباد في كل زمان ومكان ، فهم يأخذون من الأمر العام بالدعوة والأمر والنهي على مقدار علمهم " .
جاء في ( التفسير الكبير المسمى البحر المحيط ) : " لأن الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يصلح إلا لمن علم المعروف والمنكر ، وكيف يرتب الأمر في إقامته ، وكيف يباشر ؟ فإن الجاهل ربما أمر بمنكر ونهى عن معروف ، وربما عرف حكما في مذهبه مخالفا لمذهب غيره ، فينهى عن غير منكر ويأمر بغير معروف ، وقد يغلظ في مواضع اللين ، وبالعكس " .
أقول : ولمّا أتْبَع اللهُ أمرَه بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ بقوله : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ) دلّ ذلك على أن هذا الأصل من أصول الشريعة إما أن يكون سبباً للوحدة و الاجتماع والألفة ، أو هو في نفسه – إذا تحقق – يكون وحدةً واجتماعاً وتآلفاً ، وكلا الوجهين صالح وظاهر لمن تدبّر ... والحمد لله تعالى .
فإن قال قائل : نتحد أوّلاً ثم نعمل على تحقيق هذا الأصل العظيم .. !
فيقال له : كيف تستطيع اليوم أن توحِّد بين الناس و تؤلف بين قلوبهم مع ما تراه من إتباع للهوى ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ولا سلطة للدين على قلوب الناس ، والبدع ، والمعاصي ، و .. و .. ؟!
ولا مفرّ أن يقول – إن كان منصفاً - : بالكتاب والسنّة !
- فإلى ماذا عدنا ؟!
إن استكبر فسيقول : بتأسيس الجماعات والأحزاب التي تتولى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر !
وإنه لمن أعجب الأمور أن بعض ( الحزبيين الإسلاميين ) راح يستدلّ بهذه الآية على جواز تأسيس الجماعات والأحزاب للقيام بأعمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخلْط وخبْط ظاهرين ؛ ذلك أنهم غضوا الطرف عن أعمال الدعوة إلى الخير ووصف من يقوم بها – وهم العلماء - كما بيّنا آنفاً ، وكذا من يتصدّى للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالآية حجة عليهم لا لهم ! ، وكما قال شيخ الإسلام فإن أهل الباطل ما احتجوا بشيء من القرآن والسنة إلا وفي الذي احتجوا به ما يدحض حجتهم ويبطل مذهبهم !
قلت : سبحان الله ! فكيف – هنا – وقد أتى ذمُّ التفرق والاختلاف الذي يؤدي إليه التحزّب ؛ صريحاً بعد الآية نفسها وهو قوله تعالى : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ) ! وهو ما يعرضوا عنه ولا يذكرونه .. ! .
والأدلة على هذا كثيرة مثيرة !
والمسألة – عقلاً – لا تخرج عن القول : إذا ما قالوا بأن هذا الأصل من فروض الكفايات ؛ لزمهم أن يكون منوطاً بأهل العلم ، وإن قالوا بأنه من فروض الأعيان يقوم به كل فرد ؛ فقد أبطلوا دليلهم على ( مشروعيّة ! ) تكوين وتأسيس الأحزاب والجماعات ! .
وهنا ؛ أذكر كلمة سلفيّة رائقة رائعة : ( كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة )
وبحث هذا يطول ؛ ولكني أذكر بقوله تعالى : { فلا تَتَّبعوا الهوى أنْ تَعدلوا وإن تَلْووا أو تُعْرِضوا فإن الله كان بما تَعْملون خبيراً } .
فإذن ! أصل الدعوة إلى الخير والأمر والنهي – بدءًا وانتهاءً – لن يقوم إلا بالالتفات إلى العلماء ؛ فهم ورثة الأنبياء العارفون بما يُصلِح شؤون الأمّة ؛ لا ( بالالتفاف ) على النصوص الشرعيّة – ليّاً وتطويعاً وتطويحاً – لخدمة ( الحِراكات ) والحركات الحزبيّة والمذهبيّة .. !
وهذا يجعلني أعرّجُ – مُكرهاً – على موضوع متناهٍ في الأهميّة و الحساسيّة ؛ إذ هو متنُ المقالات في عمل و ( سياسة ! ) الأحزاب ( الإسلاميّة السياسيّة ! ) ، وما عداه من كلام حواشٍ لك أن تتحاشاها .. !
وأرجو القارئ إمعانَ النظر و التدبّرَ ، وحسنَ التصوَّر والتفكّر ؛ فإنّ الفهمَ الصحيح فرعٌ عنهما .
فأقول – مستعيناً بالله جلّ ذكره - : ما من خلافٍ في أنّ الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم أعمال الدين وأوجبها كأصل عظيم من أصول شرعنا الحنيف ؛ ويدخل في ذلك أمر الحكام وولاة الأمور وأصحاب السلطة بالمعروف ونهيهم عن المنكر ومناصحتهم ؛ غير أنّ لهذا الأصل مسائل كثيرة حرّرها أهل العلم في كتبهم ومصنفاتهم ؛ وهذا لئلا يخرج الأصل المذكور من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمناصحة ؛ إلى الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والمناكفة والمناطحة .. ! .
وتلك المسائل تتعلق – أساساً – بمن يباشر الأمر والنهي والنُصح ؟ وكيفية ذلك ؟ وما هي وسائله وأدواته ؟ ومتى يُقْدمُ عليه ومتى يُحْجمُ عنه ؟ وغير ذلك من المتعلقات ؛ والتي يسميها أهل العلم – اختصاراً وانتصاراً لهذا الركن – : " الضوابط الشرعيّة أو الفقهيّة للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ؛ وهو ما يكاد أن يكون علماً قائماً بذاته لكثرة من تكلّم فيه من أهل العلم والدراية .
ولن أخوض كثيراً في تلك المسائل ؛ فالمقام لا يتسع ، والمراجعُ من كتب أهل العلم المعتبرين متوافرة والحمد لله تعالى ؛ ناهيك عن المؤلفات الحديثة التي بحثت تلك الضوابط الشرعيّة والأصول الفقهيّة بشكل عام ؛ وأيضاً في مسائل خاصّة كالتي نحن بصددها .
وأنا هنا سأتكلم مباشرة حول هذه المسألة من خلال النظر إلى ( سياسة ) الأحزاب والجماعات الإسلامية في التعامل بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الحكام و ولاة الأمور : فهماً وتحقيقاً ، وعلماً وتطبيقاً ، والكلام على أقسام – وباختصار شديد - :
الأول : إنّ هذه المسألة من المسائل العامة العظام ، والأمور الهامة الجِسام للأمة ؛ ينبغي الرجوع فيها لأهل العلم الربّانيين العارفين بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس ؛ وأن لا تترك لأهواء الناس والأحزاب والجهّال ومدعي العلم ومنتحليه ؛ يخوضون فيها خوض الغريق في الماء ، ويتخبطون فيها تخبّط عشواء .. !
فما بال ( الأحزاب الإسلامية ) قد نصّبَت نفسها مكان العلماء ! ، وصادرت دورهم فراحت تفتي – إما بلسان المقال أو بلسان الحال – بأمور عظيمة وخطيرة ! ، وتنكر على الحكام و ولاة الأمور وأصحاب الأمر والنهي من غير التفات للضوابط الشرعية ، والقواعد الفقهية ! ، ودون أدنى اعتبار لكلام أهل العلم من المتقدّمين والمتأخرين والمعاصرين في مثل هذه المسائل .. ! ؛ متّبعةً سياسة التصعيد ؛ ليس فقط على صعيد وسائلها ؛ بل وأهدافها ، ومطالبها .. !! ؛ وهذا تراه – دون إمعان – في ( الشعارات ) التي ترفعها تلك الأحزاب في مظاهراتها ؛ والتي تتطور و( تتهوّر ) يوماً بعد يوم ؛ فمن ( حقوق الشعب ) إلى ( محاربة الفساد ) إلى ( محاكمة المفسدين ) إلى ( تعديل الدستور ) إلى ( الملكية الدستورية ) إلى ... إلى .. !!
إلى أين تذهب بالمسلمين الآمنين ؟! إلى أي مصير – بهم - تسير ؟!
وأما ( سياستهم ! ) في ( أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ) فقديمة سقيمة !
إنها سياسة التشهير والتهريش والتهويش : في مظاهراتهم ، و مضاهاتهم للثورات في البلدان الأخرى – شكلاً ومضموناً وتنظيماً !! - ، وعلى المنابر وفي ( صحفهم ومجلاتهم ) !
كلُّ هذا نُصْحاً لولي الأمر .. زعموا !!
فأين هذا من هدي نبيّنا – صلى الله عليه وسلم – ومنهج سلفنا الصالح وعلمائنا المجتهدين ؟!
عن عياض بن غنم - رضي الله عنه قال - : قال رسول الله : " من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبدِ له علانية ولكن ليأخذ بيده فيخلو به ؛ فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه " رواه الإمام أحمد وابن أبي عاصم وغيرهم وصححه الإمام الألباني .
ولقد ( فهم ) السلف الصالح مُراد النبي صلى الله عليه وسلم ..
فلمّا طلب الناس أيام الفتنة من أسامة بن زيد أن يدخل على عثمان بن عفان – رضي الله عنه وأرضاه – فيكلمه في بعض الأمور ؛ ‏قال : ‏ ألا ترون أني لا أكلمه إلا أُسمِعُكم ؟! والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرا لا أحب أن أكون أنا أول من فتحه .. ! والقصة في الصحيحين .
واجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله [ الإمام أحمد ] ، وقالوا له : يا أبا عبد الله ! إن هذا الأمر قد تفاقم وفشا – يعنون إظهاره لخلق القرآن وغير ذلك – !
فقال : فما تريدون ؟
قالوا : أن نشاورك في أنّا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه ..! ، فناظرهم في ذلك ساعة ، وقال : عليكم بالنّكرة بقلوبكم ولا تخلعوا يدًا من طاعة ، ولا تشقوا عصا المسلمين ، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم ، انظروا في عاقبة أمركم ، واصبروا حتى يستريح برٌّ ، أو يُستراح من فاجر .
وقال : ليس هذا بصواب ؛ هذا خلاف الآثار .. ! .

ولذا .. لمّا سُئل العلامة محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله تعالى - : لماذا لا تردّون على الحكام وتبيّنوا للناس ؟
فقال : ولكن النصح مبذول [ فذكر كلاماً ثم قال : ] بيان [ أي إظهار ] ما نفعله مع الولاة فيه مفسدتان :
الأولى : أن الإنسان يخشى على نفسه من الرياء ؛ فيحبط عمله .
الثانية : أن الولاة لو لم يطيعوا ؛ صار حجة على الولاة عند العامّة فثاروا وحصل مفسدة أكبر .
رحم الله تعالى الشيخ ؛ مُلئ فهماً وعلماً فكان هذا ردُّه ؛ لله درّه ! وكلامه يدفعنا إلى ..
القسم الثاني – من الكلام - فأقول : لو لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديثُ الذي ذكرناه وصححه الفقيه المحدُث الألباني رحمه الله ، أو لم يصحّ كما ذهب البعض ، أو استقام قول من فسّر الحديث بأنه ينطبق على النصح فقط لا على الإنكار ! ، وكذا الآثار المذكورة عن الصحابة والعلماء ؛ وفيها ردٌّ عليهم ... فإنه لا بدَّ – عند القيام بأعمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – من مراعاة الضوابط الشرعية والأصول الفقهية ..
فأما الضوابط الشرعية فمن أهمها : أن يكون أهل العلم هم من يتصدّى لمثل هذه المسائل ، وهذا لا يجادل فيه إلا مكابر عنيد ! ، أو من ران ( التعصّب الحزبيّ ) على قلبه و بصيرته ... !
وأمّا الأصول الفقهيّة : فقد جاءت الشريعة السمحة باعتبار المصالح وتكميلها ، ودرء المفاسد و تقليلها ولذا " فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له ، فإن كان الذي يفوت من المصالح ، أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به ، بل يكون محرمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته ، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة " [ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ]
وقال تلميذه البارّ ابن القيّم : " إنّ النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله ؛ فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره ، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله ...
إلى أن قال : ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر ! ، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه ! "
قلت : وأي شيء أبغض إلى الله ورسوله من الفتنة ؟!!
تُزهق فيها الأرواح وتسيل الدّماء ، وتستباح الأموال والأعراض ، ويُشرّد الأطفال والنساء ، ويُضارُّ الناس في معايشهم ومصالحهم ، والأمرُّ – كنتيجة حتميّة - : فسادُ دينهم ودنياهم .. !
نُرقّع دنيانا بتمزيق ديننا فلا دينُنا يبقى ولا ما نُرقّع
والأحزاب الإسلامية ( السياسية !! ) الآن – ومعها غيرها من صغار الأحزاب والتكتلات والتجمعات ! – إنما يُحرّشون القلوب ، ويُجيّشون ويجرؤون العامّة – وفيهم الجاهل والأرعن وصاحب الهوى والذي لا يدري ! – وذلك بالخطابات ( الحماسيّة ) السقيمة ؛ البعيدة عن " التطبيقات الشرعيّة " السليمة .
ونقولها بكلّ مرارة : الأمور في تفاقم وتأزم ؛ والنّار أولها شرارة .. !!
" والفتنة إذا وقعت عجز العقلاءُ فيها عن دفع السّفهاء " كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .
فلينهض العقلاء الآن وينشروا العلم النافع .. وينصحوا – بالحكمة – من كان في التحزّب واقع ...!
ألا وإنني سائلٌ بالله ( إخوانَنا المسلمين ) أن يدرؤوا الفتن ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً .. بتوجيه الشباب إلى العلم الشرعي فإنه رأس العواصم من الفتن و القواصم ، والعودة إلى أهل العلم ومشاورتهم في الحوادث والنوازل ؛ وإلا – إن وقعت الفتنة لا قدّر الله – فإننا موقفون بين يدي الله – جلّ ذكره – ؛ و يومئذٍ يودٌّ من أعان على الفتنة ولو بشطر كلمة أن لو كان في الدنيا أصمّاً أبكماً في الورى من سوء ما يرى .. ! { فهل من مدّكر }.
أسأل الله العظيم أن يحفظ بلدنا من الفتن ، ويجعله آمناً مطمئناً وسائر بلاد الإسلام ، وأسأله تعالى أن يوفق ولاة أمورنا لكل خير وأن يرزقهم البطانة الصالحة التي تأمرهم بالمعروف وتعينهم عليه ، وتنهاهم عن المنكر وتعينهم على تركه ..
سبحانك ربّنا ربّ العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين



تعليقات القراء

أبوفارس
بارك الله فيك شيخنا الأستاد نواصره



حقيقة كأننا في غيبوبة وأنت أيقظتنا بالكلام العلمي المؤصل وإن شاء الله سننشر المقالة في كل مكان

وبانتظار القادم
22-03-2012 07:52 AM
مدهش
أسلوب متميز وطرح علمي رائع ولغة قوية اللهم لا حسد
22-03-2012 09:54 AM
أمة الله
اقتباس من مقالة للشيخ على موقع جراسا بعنوان ( روّاد الفتن ):

" قال الشيخ عبد المالك الجزائري في ( مدارك النظر في السياسة ) : ' وفي الصحيحين أن أبا هريرة كره التحديث بحديث الجرابين – الذي فيه تنقص بعض الحكام – لظهور بوادر الخروج عليهم في وقته مع تفشي ( الجهل ) ن وكان يقول : ' لو شئتم لسمّيتهم ! ' قال الحافظ : ' ولهذا كره أحمد التحديث ببعض دون بعض الأحاديث التي ظاهرها ( الخروج ! ) على السلطان ..' فتأمل تصرف هؤلاء الحكماء من الفقهاء ، وقارن بينه وبين متناقضي زماننا !! ' "
22-03-2012 03:12 PM
قاسم رمضان
إن هذا الكلام كلام رجل عاقل, ولا أزيد !

بارك الله فيكم !
23-03-2012 11:37 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات