عهد الملك عبد الله الثاني في عقده الاول


يكمل الملك عبد الله الثاني سنته العاشرة على رأس سلطاته الدستورية, مكرسا نهجا قياديا جديدا يركّز على الشأن الداخلي وتقوية مؤسسات الأردن المعاصر, التي أرسى أساساتها والده الراحل الملك حسين. يأتي ذلك بعد أن حصّن الملك الشاب المملكة ونظامها من شرور الإقليم المتطايرة بإتقانه لعبة التوازنات السياسية.

الملك وجد نفسه بين ليلة وضحاها مسؤولا عن إدارة شؤون أسرة قوامها أكثر من ستة ملايين نسمة متعددة الأصول والمنابت. ساعدته شخصيته الديناميكية وانضباطه العسكري في اجتراع رؤية جديدة للتعامل مع تحديات المملكة الاقتصادية والاجتماعية, بما فيها رعاية قطاع الشباب والمرأة وحقوق الطفل - الأوسع قاعدة لكن الأكثر تهميشا في المجتمع.

تغير الأسلوب وليس المضمون.

اتكأ الملك في مسعاه إلى مظلة العلاقات الدولية القديمة/الجديدة وأساسها تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة, ومعاهدة سلام نافذة مع إسرائيل منذ عام 1994 ودعم لا متناه من دول الاتحاد الأوروبي و"الاعتدال العربي" بقيادة السعودية.

منذ اعتلى العرش, أطلق عشرات المبادرات الملكية التي تخاطب هموم المواطنين بسرعة بدلا من الانتظار لاستجابة ماكينة البيروقراطية المتجذرة في مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية. وهكذا سبق في غالبية مبادراته رؤساء الحكومات الستة التي خدمت منذ بداية الملكية الرابعة. تلك المبادرات ساهمت في تحسين المستوى المعيشي والخدمي للسكان وتوفير فرص عمل واستقطاب استثمارات تضمن استدامة النمو.

لغة الأرقام تتحدث منذ خمس سنوات - قبل أن يتأثر العالم برمته بزلزال الأزمة المالية والاقتصادية العالمية نهاية 2008 - عن قصة نجاح اقتصادي أردني لدولة شحيحة الموارد الطبيعية وبلا مقومات اقتصادية أو قوة عسكرية, لكنها غنية بمخزون بشري, ومحسودة على أمنها واستقرارها واعتدالها, وعلى كل ما حققته من انجازات مقارنة مع الموارد المتاحة.

لكن تحويل الحلم الملكي إلى حقيقة وتكريس نهج جديد يتماشى مع ثوابت الدولة لم يأت بدون ثمن سياسي بسبب الاختلاف حول أسلوب تنفيذ التغيير بين رجال "العهد القديم والعهد الجديد" وصراعهم المستمر على كعكة المكاسب والنفوذ.

لا تزال النخب السياسية كحال رجل الشارع تتخبط حيال نتائج التغيير المتحقق. فالكل يقيس الأمور من زاويته, مع نتائج التغيير في حقل التربية والتعليم, مثلا, لن تظهر قبل أن يتخرج أول جيل, دخل الصف الأول الابتدائي عام ,2001 وبدأ يتعلم اللغة الانجليزية ومهارات الحاسوب.

على أن الشكوك تتنامى في زمن تتأرجح فيه الجبهة الداخلية بين القوى العشائرية والإسلام السياسي والليبرالية الجديدة وبقايا القوى اليسارية والقومية. وبالتالي يختلط الشد مع ضياع مفهوم التحديث الشامل بين ازدواجية القول والفعل.

كذلك يغيب التوافق المجتمعي على شكل وهوية الأردن الجديد وسط تنامي فجوة الثقة بين الحكومة والشارع, وتناسل مظاهر الفساد والإفساد, واختلاط البزنس والمال بعالم السياسة والسلطة. بموازاة ذلك, تراجع الدور الدستوري للبرلمان والحكومة في اللعبة السياسية لصالح مراكز نفوذ أخرى تمددت وتقلصت تباعا بعد أن وجدت لاختراق البيروقراطية., وغابت أيضا الشفافية والمساءلة وسط ترهل بيروقراطي وإداري كارثي. في الأثناء عجز المجتمع المدني والأحزاب الوطنية عن تشخيص الهم الوطني وملء الفراغ.

يبدو للساسة والمراقبين بأن الملك عبد الله حسم بوصلة نهجه صوب طريق اقتصادية-سياسية ثالثة لمواجهة الأزمات الخانقة وردم هوة الصراع بين المدرستين المتناحرتين, وهما في كر وفر منذ عقد. اليوم يحاول نهج التطوير الملكي اشتقاق اقتصاديات جديدة توازن بين مدرسة تؤمن بالإغراق في الخصخصة واللبرلة ضمن وصفات عالمية لا تقيم وزنا للوقائع الاجتماعية والخصوصية الداخلية ومدرسة أخرى تؤمن بتكريس دور دولة العطايا والقطاع العام للمحافظة على التوازنات الحساسة داخل الدولة والمجتمع.

المراجعة اقتضت أن يعود الأردن إلى الوسط والعمل من داخل المؤسسات لإحداث تغيير تدريجي راسخ بدلا من تجاوزها وخرق مرجعية الدستور.

تحلت المراجعة الملكية أخيرا بإخراج رموز المدرستين المتصارعتين من الساحة السياسية مؤخرا. ونجحت حكومة المهندس نادر الذهبي في استعادة الولاية العامة بطريقة تدريجية خلال الشهور الماضية.

لكن منسوب الاتهامية والشخصنة ما يزال مرتفعا في الإعلام كما في البرلمان ليعكس ثقافة كراهية مغلّفة بتحريض جهوي وإقليمي يهدد النسيج الاجتماعي الحساس أصلا.

التوتر الداخلي يأخذ منحى تصاعديا بالتوازي مع حجم تهديد خارجي كامن من الغرب حول تشكيل شرق أوسط جديد تتصارع واشنطن وطهران على بسط نفوذهما بين أطرافه. ويبقى السؤال المليوني: ما هو مستقبل عملية السلام بعد الانتخابات الإسرائيلية التي ستعيد اليمين المتشدد إلى السلطة على وقع انقسام فلسطيني بين مرجعيتي سلطة حماس في "غزة" وسلطة "فتح" في الضفة الغربية ونظام عربي متشرذم. وهل ستقوم ادارة الرئيس الديمقراطي الجديد باراك أوباما بلعب دور الوسيط النزيه والحازم لفرض حلول وسط بدلا من إطالة أمد عملية تفاوض بدأت قبل حوالي عقدين?

اليوم يحتاج الأردن إلى تحصين جبهته الداخلية وتنويع سلة خياراته الدبلوماسية خدمة لمصالحه العليا, بعيدا عن الاصطفافات الداخلية والإقليمية.

فتماسك الجبهة الوطنية لم يعد ترفا فكريا بل أضحى أولوية من خلال فتح قنوات الحوار والمشاركة المرتكزة إلى مرجعية الدستور وصولا إلى توافق مجتمعي حول وجهة الاصلاح ودور الدولة, وأسلوب إدارتها وتحسين مستوى معيشة المواطن. هذه الآليات أضحت ضرورية للوقوف في وجه الخطر المقبل من الجبهة الغربية, لأن الدولة الفلسطينية المستقلة المقبولة للجميع التي كان وعد بها الرئيس السابق جورج بوش قد لا تقوم إذا فشلت الإدارة الأمريكية الجديدة في وقف الاستيطان وبناء "الجدار العازل".

في الآتي من الأيام سيعود الضغط باتجاه "الخيار الأردني" المرفوض من رأس الدولة وسائر هرم السلطة وغالبية القوى الشعبية لأنه ببساطة يعني بداية انتحار سياسي.

لمواجهة الخطر المقبل, لا بد من بدء حوار وطني وانفتاح على قوى المعارضة بما فيها الإسلاميون شريطة التزامها بالدستور والقانون للاتفاق على ثوابت وطنية "حقيقية وليست شكلية" تضبط مكونات المجتمع كافة وتحافظ على الأمن والاستقرار في ظل نظام ملكي شامل. الثوابت الوطنية عمادها الالتزام بالدستور وبالعلاقات الدولية الإستراتيجية للأردن.

هكذا اتفاق على الخطوط الحمراء يمهد لرسم خارطة طريق بما يعزّز مسار التحديث الشامل للدولة بما فيها العودة إلى خيار الديمقراطية الذي خرج عن السكّة منذ عام .1993

يتطلب الجهد الوطني أيضا صياغة ميثاق اجتماعي جديد يحدّد حقوق وواجبات الدولة تجاه مواطنيها في ظل القانون والمواطنة والمساواة في الحقوق المدنية بدلا من استمرار التخندق وراء حساسيات عفى عليها الزمن.

بذلك يكون الأردن الرسمي والمجتمعي قد مأسس للتغيير بعد أن راجع رأس الدولة نجاحات وإخفاقات العقد الأول من عهده وخرج باستنتاجات حيال كيفية العمل مستقبلا لتكريس الإصلاح الشامل المنشود بطريقة تشعر الجميع أنهم يجلسون في مركب واحد معا في وجه الأخطار القادمة.0


 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات