السياسة والأدب


الكتابة ليست ترفا بل موقف وحياة .
كثيرون من امتشقوا القلم ودبجوا المقالات والقصص والروايات والأشعار لكن القليل منهم من جعل الكتابة قضيته الوجودية ، والقليل أيضا من حمل روحه على سنان قلمه وقال كلمته وجاهر برأيه ولم تأخذه في إيضاح الحقيقة لومة لائم ، فكانت نهاية حياته سواء بالسجن أو الاغتيال المعنوي أو الجسدي ضريبة موقفه وعربون صدقه مع نفسه .
الكتابة الأدبية ليست العيش في برج من عاج ولا التعالي على فئات الأمة ولا الهروب من قضاياها بالتهويم في اللامعقول أو المطلسم أو الرمز المغلق بحجة الفن للفن ونخبوية القراء .
خطأ الكثير من الكتاب الذين حملوا هم التنوير والوطنية انزلاقهم الى المباشرة والتحريض المكشوف ودغدغة العواطف دون عمل على الارتقاء بوعي وذائقة المتلقي ، وأصبح الأدب بالنسبة لهم إغراقا في الحزبية والأيدلوجية
حتى إذا انتهت الحقبة الزمنية تبخرت أعمالهم ونسيها التاريخ الأدبي ولم تتوقف أمامها الأجيال ، على العكس من ذلك تماما أولئك الكتاب الذين وازنوا بين الالتزام ومزجوه بوعيهم الخاص وشكلوا ارهاصا للقادم ، ونبوءة ذكية للمستقبل ،بناء على قراءة الواقع .
تحضر هنا تجربة المبدع "غسان كنفاني" بوضوح ، خاصة في روايته ( ما تبقى لكم ) بكل توهجها الفني وطرحها الفكري الذي نضج على نار هادئة من التجريب وهضم الواقع وتمثله بعد المرور على محطات ( أم سعد ) و (عائد إلى حيفا ) .
ولئن كان غسان كنفاني مثالنا في حقل القصة والرواية فالأمر ينسحب على دراساته التي ما ابتعدت عن خط اهتمامه الملتصق بوطنه، تلك الدراسات التي حملت رايته لمتلقيه الذين عرفوا عدوهم الصهيوني، وما هي مواصفاته في ادبياته التي ينشرها كتابه .
على الصعيد المسرحي ، تبرز تجربة "سعد الله ونوس " بإضاءته مشعل المسرح السياسي ، الذي لم يتجاوز تجربته أحد ، بعمقها وشمولها وموضوعية طرحها، وقدرتها على قراءة الواقع ، والتعبير عنه ، بلغة مسرحية ، موظفا الإسقاط التاريخي البعيد عن التلقين .
"نزار قباني" الذي سيطرت صورة المرأة على أدبه، وكاد الناس غير المتخصصين لا يعرفونه إلا شاعر المرأة فقط، فان محطة شعره السياسي لا يمكن تجاوزها، لما تحويه من تزامن وقدرة على الربط المحكم الدقيق بين الارتقاء بالذوق الفني ، عبر المفردة الشعرية وبين النبش في سوءات الواقع وتعريتها ، ولعل قصيدته المبكرة ( خبز وحشيش وقمر ) ومن بعدها ( هوامش على دفتر النكسة ) ، ثم ما تلا ذلك من منظومة شعره السياسي، تضيء جانبا هاما في مسيرة ارتباط المبدع بالسياسي بتوازن لا يطغى فيه أحدهما على الآخر .
"يوسف القعيد" ، شكّل في أعماله الروائية والقصصية مواكبة حميمة لنبض الإنسان العادي ، فكان أمينا لبيئته ،مصورا لانعكاسات الانفتاح على الطبقات الدنيا في مجتمعه ، وتكاد ( شكاوي المصري الفصيح ) الإبداع الذي لامس هموم الناس في بدايات الانفتاح وشكّل قرآءة لما ستأتي به الأيام ، في حين كانت روايته ( الحرب في بر مصر ) قد أرخت لمعنويات الجندي العربي والروح المعنوية العالية في حرب 73 والتي خذلها توقف الحرب ، ومن هنا يمكن اعتبار أدب" يوسف القعيد" صورة صادقة وتأريخا أمينا لمجريات السياسية وإرهاصاتها وانعكاساتها على الشارع ، بكل أطيافه، دون أن تظهر على أعماله دعاية لمدرسة سياسية بعينها .
"غالب هلسا" الأديب العربي الأردني الذي تنقل بين مدارس سياسية كثيرة، وكانت غربته عن وطنه الأم ، الضريبة التي دفعها منفيا في هجرات متلاحقة بين عمان وبيروت والقاهرة ودمشق وبغداد، حتى عاد إلى وطنه جثمانا ، ظل على قناعاته، فلم يهادن ولم يتنازل عما آمن به واقتنع، فكان صورة للمثقف التي ترجمت حياته قناعاته بلا تزييف، وعبرت رواياته عن حالة الاغتراب التي عاشها ممثلا لهذا النموذج من الأدباء، الذين التصقوا بقناعاتهم ، ولعل روايته ( سلطانه ) التي أرخت لطفولته في القرية وتفتح وعيه السياسي هناك، ظلت جمارها متوهجة في وعيه الذي عبر عنه روائيا في روايات ( ثلاثة و جوه لبغداد ) و ( الضحك ) والسؤال ) .
يقودنا هذا للحديث عن فئة تسلقت الإبداع وتاجرت بالقلم وركبت موجة السياسة، فارتفعت وُسلطت عليها الأضواء لفترة ، إنطفأ وهجها بزوال الحزب وانهيار الأيدلوجيا ، ولعل ترجمة وانتشار كتاب ( من يدفع للزمار ) للبريطانية "فرانسييس ستونر" سنة 1993 الذي ارشف لنتائج الحرب الباردة ثقافيا، وعلاقة المخابرات الأمريكية بعالم الثقافة والفنون والأدب، يكشف عمق الهوة التي عاشها الأدب ومنظريه، ممن ُسلطت عليهم الأضواء فنالوا أكثر مما يستحقون بفعل الدعايات ، وهم بحسن نية أو سوءها ، كانوا يخدمون أهدافا ُخُطط لها بليل ، سواء أكان ذلك على صعيد مشاريع ثقافية ،كدور نشر أو مجلات ، أو نفخا في أسماء لم يعد يذكرها أحد ، بل ويمر التاريخ الأدبي عليها بشيء من التهميش ، بعد أن ُكشفت أوراقها كأدوات تعمل لصالح جهات أمنية غربية باسم الحداثة والتنوير .
** نشرت في ملحق فنارات الأدبي



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات