المغترب .. بين مطرقة الشوق وسندان الواقع


بكل تأكيد إن العيش بعيدا عن الأهل والأصدقاء وخارج البلد الذي نشأت وترعرعت به ليس الوضع الطبيعي، حتى وإن كان هذا المغترب يتنعم بأشياء لم يكن يحلم بها في بلده أو يفكر بالحصول على جزء يسير منها، والغربة كحالة لها الكثير من مسبباتها وهي موجودة بكل العالم تقريبا، فهناك غربة للعلم وغربة للسياحة وغربة للعمل وطلب الرزق وهناك غربة إجبارية بفعل محتل غاصب أو حاكم للحق وأهله محارب، ولكن الغربة الأكثر قسوة والأكثر ألما هي تلك التي تجبرك ظروف بلدك عليها وأنت زاهد بالغربة ولست طامع بها، أي أن يلحق بك الأذى في بلدك الحبيب جدا على قلبك والذي تفتديه بالمهج والأرواح والمال والولد، وهنا ألوم الفاسدين بكل تأكيد ولا ألوم الوطن الغالي.
في الغربة وهنا أتحدث عن تجربة شخصية، راتبي أكثر بأضعاف ولدي سيارة وأدفع كل شيء من معاملات حكومية أو فواتير أو تذاكر عن طريق الإنترنت وأتسوق من المولات وأذهب إلى المطاعم دون الخوف من الحساب وأدفع عن طرق الفيزا، ولكن مع كل هذه البهرجة ومع كل هذه الزخرفات ينقصني شيء مهم جدا ... ينزع من هذه المتع لذتها أو يفقدها ألقها ومعناها ... فتصبح هذه الأفعال عادات يومية أو حياتية ممله لا طعم لها ولا لون ولا رائحة... ينقصها الروح نعم هنا كل شيء مسلوب منه الروح فلا تشعر بفرحة الأهل وتستفقد لمشاركتهم لك بفرحك أو حزنك أو حتى نجاحاتك ... فتنظر مطولا فتجد أن النجاح وإن صغر في بلدك له طعم مختلف وفرحة مختلفة بل إن الأهل والأصدقاء والأحبة هم الفرحة الحقيقية وهم الروح التي تحرك المناسبات وتدب بها الحياة.
في الغربة تدور برأسك ملايين الأفكار المبهمة وآلاف الأسئلة الحائرة على منافذ القلب والروح، والتي تجعل منك إنسان مشتت في الكثير من الأحيان وأنت حائر بين الأفكار والأسئلة والإجابة عليها... فمتى سأعود ؟ وهل الغربة مجدية أم لا ؟ وهل الوضع في البلد أفضل من بقائي بالغربة؟! أم هل سأعود ليلحق بي الظلم من جديد؟ ... حتى على مستوى الإجازات والأعياد تفكر بأي العيدين ستذهب وكم ستكون التكاليف؟ ، في الغربة تصبح أحيانا بخيل لأنك مغترب من أجل المال وتصبح أحيانا مبذر لأنك مغترب ودخلك مرتفع... ولا تنتهي الصراعات والأفكار حتى وقت زيارة الأهل والأصدقاء في الأعياد وهي المفروض أن تكون وقت راحة واستجمام وألفه، فإن شكوت الغربة وأحوالها إتهموك بأنك كاذب وتخاف من الحسد وإن شكوت البلد وظروفه نعتوك بالكبر وأن الغربة قد غيرتك ... إن قلت أن الغربة غير مجدية ماديا وتتلكم عن حالتك بالتأكيد وليس عن شخص آخر تبدأ العيون ترمقك بنظرات الشك والريبة، وإن قلت أن الأمور تمام ولله الحمد قالوا كأن شخصا لم يتغرب غيره، هذه بعض الإضطرابات التي يعاني منها المغترب فهو يعيش بين مطرقة الشوق والحنين للبلد وللأهل وللأجواء الطبيعية والحياة الإجتماعية السوية التي لا يمكن إختصارها بزيارة في العام أبدا، وسندان الواقع الذي يصدم الكثير من المغتربين الذين يفكرون بالعودة والإستقرار في بلدهم الأم.
لكل مغترب حالته الخاصة، والظروف التي تجبر أي شخص على ترك بلده تختلف من شخص لآخر، والغربة تستهوي بعض الأشخاص أو تشدهم إليها؛ لأنها من وجهة نظرهم أعطتهم ما لم يكونوا يحلموا به في وطنهم، ولكن بالنسبة لي فعلاقتي مع الأردن أكبر من هذا بكثير فهي علاقة عشق وهوى متبادل وليس علاقة منفعة أو مصالح ضيقة ولا ولم أنظر إلى الأردن يوما على أنه لم يقدم لي شيئا ولكن أتطلع وأصبو أن أقدم له كل ما بوسعي وأمنحه كل ما أقدر ولا أبخل عليه أبدا؛ لأنني أعطي الأردن ليس بمقدار ما أعطاني أو سيعطيني ولكنني أخدم الأردن ليصبح كما أريد وأتمنى له أن يكون.
يشكون الأخوة هنا لنا عند الحديث عن الوطن عن الكثير من الأسباب التي دعتهم وأجبرتهم على الغربة من بطالة وفساد نقر بوجوده بكثره بل وهو الذي كان أحد أسباب غربتي شخصيا، ويتحدثون عن الضرائب الكثيرة وعن أسعار البيوت والشقق العالية والمبالغ بها، وعن شح المياه وارتفاع أسعار المشتقات النفطية، فأنا لا أعارض ما يقولون ولكن أقول لهم باختصار إن المعاناة اليومية لهذه الأشياء مع دعائي المتواصل للمولى عز وجل أن يخففها أو يرفعها عن كاهل شعبنا في الأردن أرحم من وجهة نظري من مصارعة الأفكار القاهرة التي تفقدك لذة الحياة اليومية هنا في بلاد الإغتراب، مع التأكيد على إحترام كل وجهات النظر وتقدير أصحابها، حمى الله الأردن بلدي وأبعد عنه الفاسدين والمفسدين وجعله وأدامه واحة أمن وأمان، وأدام هيبته التي يحاول البعض التطاول عليها والنيل منها إنه ولي ذلك والقادر عليه.


Abomer_os@yahoo.com



تعليقات القراء

هذلول بن متعب
الى الكاتب الكريم

(بكل تأكيد إن العيش بعيدا عن الأهل والأصدقاء وخارج البلد الذي نشأت وترعرعت به ليس الوضع الطبيعي، )الى كل مغترب كريم :وين ما كنت تكون,اذا انت جدي ارجع وثمن التذكره علي
20-11-2011 03:24 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات