هَمُّ الَّليْلِ وَذُلُّ النَّهَارِ


إنَّ مِنْ وسائلِ شريعةِ الإسلامِ في حفظِ نظامِ الأمةِ , وحياتها , واستدامةِ صلاحِها واستقامتِها , أنَّها أعطت حقوق العباد مكانتها الأسمى , من الاعتناء والاهتمام , ومنزلتها العظمى من التقدير والاحترام .
ومن ذلك ما قامت به شريعة الإسلام من تأمين أصحاب الحقوق حفظا وصيانة , حتى قرّر أهل العلم قاعدتهم المشهورة { حقوقُ العبادِ مبنيةٌ على التضييق والمُشَاحَّة , وحقوق الله مبنية على التيسير والمُسامحة } قال الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ )) النساء29 وقال – صلى الله عليه وسلم – (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وأعراضكم عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ) وإنَّ من ضمانات حقوق العباد التي أرسى الإسلام أصولها , ونظَّم قواعدها , وجعل لها من الأسس والضمانات ما يكفلها , قضية : " الديون الخاصة بالآدميين " .
عن عُقبَة بن عامر – رضي الله عنه – أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( لا تُخِيفوا أنفُسَكم بعد أمنها ) . قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : ( الدَّين ) [صحَّحه الألباني في صحيح التَّرغيب].
عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوصِي رَجُلا ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ : " أَقِلَّ مِنَ الذُّنُوبِ يَهُنْ عَلَيْكَ الْمَوْتُ ، وَأَقِلَّ مِنَ الدَّيْنِ تَعِشْ حُرًّا ) البيهقي : شعب الإيمان .
وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( أعوذُ بالله من الكُفْرِ والدَّين ) فقال رجل : يا رسول الله أتعدلُ الكفرَ بالدَّين ؟ قال : ( نعم ) . صحيح ابن حبان
فكيف يكونُ ذلك ؟ أليس عَدمُ الوفاء بالدَّين أمرًا صعباً ؟ له مخاطره على آخِرَة المسلم ومَنْزِلته , أليس عدم الوفاء بالدين اعتداءً على حقوق الغير ظلمًا وعدوانًا ؟ بعد أن سهَّلَ عليك أمرك , وفرَّج كربك , وأعانك في شدَّتِك , ومحنتِك تقابله بالنكران وهذا من اللؤم .
رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( مَنْ فارقَ رُوحُهَ جسَده وهو بريءٌ من ثلاثٍ دخلَ الحنَّةَ : الغلولُ , والديّنُ , والكبْرُ ) [رواه ابن ماجه وصحَّحه الألباني]..
ولقد حذَّر الرسول – صلى الله عليه وسلم – من الاستدانة وتشدد في ذلك , عن محمد بن عبد الله – رضي الله عنه – قال : ( كنَّا بفناء المسجد , إذْ رفع رأسَه إلى السماء , ثم خفض , فضرب بيده على جبْهتِه , ثم قال : ( سبحان الله ! ماذا نزل من التشديد ؟ ) فهِبْنَا أن نُكلِّم النبي – صلى الله عليه وسلم – وتفرَّقنا عنه , فلما كان من الغد , جاءه رجل ممن سمع مقالته بالأمسِ , فقالَ : يا رسول الله : التشديدُ الذي نزل ما هو ؟ قال : ( في الدَّين . والذي نفسً محمدٍ بيده , لو أنَّ عبدًا قُتِل في سبيل الله , ثم عاش , ثم قتل , ثم عاش , ما دخل الجنَّة , حتى يُقضَى عنه دينه ) حسَّنه الألباني في صحيح التَّرغيب .
وعن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه – رضي الله عنهم – قال : جاء رجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله , أرأيتَ إنْ قُتلتُ في سبيل الله كفَّر اللهُ عني خطايايَّ ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنْ قُتِلتَ في سبيل الله , صابرًا محتسبًا , مُقبلا غير مُدبرٍ , كفَّر الله عنك خطاياك ) فلمَّا جلسَ دعاه فقال : ( كيف قلتَ ؟ ) فأعاد عليه فقال : ( إلا الدَّين , كذلك أخبرني جبريل ) أخرجه مسلم .
لهذا كلِّه كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يستعيذ بالله تعالى منه , فكان إذا أصبح وإذا أمسى يقول : ( الَّلهمَّ إني أعوذ بك من الهمِّ , والحَزَن , وأعوذ بك من العجزِ والكسل , وأعوذ بك من الجُبْنِ والبخل , وأعوذ بك من غَلَبة الدَّين وقهر الرجال ) رواه أبو داود . إنَّه همٌّ بالليل ومذلة بالنهار .
ويجب على كل مَنْ استدان شيئاً , أن ينوي الوفاءَ به , فالذي يكونُ في نيته عدم الوفاءِ يُعَدُّ سارقًاً وخائنا , عن صُهيب الخير – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ( أيُّما رجل تداين دينا , وهو مجمع أن لا يوافيه إياه : لقيَ اللهَ سارقا ) [ رواه ابن ماجه وقال الألباني: حسنٌ صحيحٌ
وروى الطَّبراني بسندٍ صحَّيح عن ميمون الكردي عن أبيه -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: ( أيما رجلٌ استدان دينًا لا يريد أن يؤدِّي إلى صاحبه حقَّه ؛ خدَعه حتَّى أخذ ماله، فمات ولم يؤد إليه دَيْنَه ؛ لقي اللهَ وهو سارقٌ» [صحَّحه الألباني في صحيح التَّرغيب .
بل لقد رُوي أن عدم الوفاء بالدَّين من الآثام التي يلحقها القصاص , قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنَّ الدَّين يقتص من صاحبه يوم القيامة إذا مات , إلا من تديَّن بدين في ثلاث خلال : الرجل تضعف قوته في سبيل الله , فيستدين يتقوى به على عدوِّ الله وعدوِّه , ورجل يموت عنده مسلم , ولا يجد ما يكفنه ويواريه إلا بدَّين, ورجل خاف على نفسه العُزبة , فينكح خشية على دينه , فإنَّ الله يقضي عن هؤلاء يوم القيامة ) ابن ماجه والبزار .
ويظهر من هذا , أنَّ الله يعذُر من يضطرُ إلى الدين لأزمْات شِداد , أمَّا الذي تمر بنفسه شهوة , ولا يستطيع تلبيتها من ماله , فيسارع إلى الاقتراض من غيره غيَر آبه للتبعات , ولا مهتم لطريق الخلوص من دينه , كما وصفه الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأنه سارقٌ جريء .
انظروا إلى فهم الصحابة – رضوان الله عليهم – فعن أبي الدرداء – رضي الله عنه – أنه كان يقف حين ينتهي الدرب في ممر الناس للجهاد , فينادي نداءً يُسمِعُ الناس : " يا أيها الناس من كان عليه دين لم يدع له وفاء فَلْيَرْجِعْ , ولا يتبعْنِي فإنه لا يعود إلا كفافًا " .
ألا تدرون إخوتي وأخواتي : لِمَ كلُّ هذا التشديد في سداد الديون ؟ لأنَّ نفس المؤمن مرتهنةٌ بدينه حتى يُقضى عنه , فلذلك كان من الواجب عليك , أن تحاولَ قدْرَ جهدك سداد دينك قبل الموت , فإن لم تستطع , فعليك أن توصي اهلك بالإسراع بقضاء دَينك بعد الموت . قال الله تعالى : ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ )) [النساء ]
فنَفْسُ المؤمن معلقة بدينه حتى يُقضَى عنه , عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – : ( نفسُ المؤمن مُعلَّقة بدينه حتى يُقضَى عنه ) رواه التِّرمذي وابن ماجه وصحَّحه الألباني .
وعن سُمرَة بن جُندب – رضي الله عنه – أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صلَّى على جنازة فلمَّا انصرف قال : (هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي فُلاَنٍ ؟ فَنَادَى ثَلاَثًا فقام رجل فقال : أنا يا رسول الله , فقال : ما منعك أن تقوم في المرتين الأوليَّين , أما إني لم أبُوءْ باسمك إلا الخير ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي مَاتَ بَيْنَكُمْ قَدِ احْتُبِسَ عَنِ الْجَنَّةِ مِنْ أَجْلِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ ، فَإِنْ شِئْتُمْ فَافْدُوهُ ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَسْلِمُوهُ إِلَى عَذَابِ اللَّه ) قال : فلقد رأيتُ أهله ومن تَحَزَّنَ بأمره , قام فقضَوا ما عليه حتى ما بقي عليه شيء . رواه أبو داود وحسَّنه الألباني].
يقول سيدنا علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم– إذا قيل أُتِي بالجنازة , لم يسأل عن شيء من عمل الرجل , ويسأل عن دَيْنِهِ , فإن قيل : عليه دَيْن , كفَّ عن الصلاة عليه , وإن قيل : ليس عليه دَين صلَّى عليه , فأُتِي بجنازة فلمَّا قام لِيُكَبِّرَ, سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هل على صاحبكم دين ؟ قالوا : ديناران , فعدَل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال : صلُّوا على صاحبكم , فقال عليّ – رضي الله عنه - هُما عليَّ يا رسول , بريء منهما , فتقدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم قال لعليّ : ( جزآك الله خيرا , فكَّ الله رهانك كما فككت رهان أخيك , انه ليس ميِّتٌ يموت وعليه دين إلا وهو مُرتَهنٌ بدينه , ومن فكَّ رهان ميِّت , فكَّ الله رهانه يوم القيامة فقال بعضهم : هذا لِعَليّ خاصة أم للمسلمين عامَّة ؟ قال : للمسلمين عامة ) البيهقي السنن الكبرى
الحذر كل الحذر أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم : {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ }الأعراف102 وقال – صلى الله عليه وسلم – : ( لا أيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) رواه أحمد وابن حبان . اللهمَّ أغننا بحلالك عن حرامك , وبفضلك عمَّن سواك يا أرحم الراحمين .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات