اللحظة السياسية الوطنية


يمر بلدنا بلحظة سياسية فارقة،لها معطياتها واستحقاقاتها المتصلة بالظرف الوطني والإقليمي .ومن المؤكد أن رياح التغيير التي تجتاح عالمنا العربي تشملنا بمؤثراتها ،مما يعني أنها يجب أن تكون حاضرة في الذهنية العامة للدولة ومؤسساتها ،وهنا تبرز المسؤولية المركبة لرجال الدولة والسياسة ،فهم يجب أن يعملوا بشكل صحيح ومتناهي الدقة،من جهة ،ومحرم عليهم الوقوع في سؤ الفعل او الاجتهاد أو القرار في مثل هذه اللحظة،من جهة أخرى .وطلوب منهم تفعيل قدراتهم كلها في مجال الاستشعار عن بعد، وتحديد اتجاهات الريح ،وكيفية التعاطي معها .فما يميز السياسي الألمعي ورجل الدولة والعمل العام عن غيره ،هو قدرته على قراءة المؤشرات متناهية الصغر ليقوم بجمعها وتصنيفها مستخلصا منها ما يعينه في صناعة القرار وتحديد السياسات والمواقف بطريقة إستباقية وقائية .
في اللحظة السياسية الأردنية الراهنة نجد أنفسنا أمام مؤشرات متناقضة بعضها يعزز إيماننا بقدرة الدولة الأردنية على التقاط مضامين اللحظة االسياسية والتعاطي الايجابي معها،في حين يلقي بعضها ظلالا من الشك حول قدرة البعض على تقدير الموقف. وإذا كان تاريخ بلدنا هو سلسلة من اللحظات السياسية الفارقة؛فإنه تميز بقدرة القيادة الهاشمية على الإمساك بزمام اللحظة السياسية بل وتوجيهها وقيادتها في اتجاهات تحقيق المصلحة الوطنية العليا،ولسنا بحاجة لشرح أو تفصيل حول المواقف والأمثلة الشاهدة على ذلك؛لأن اللحظة التي نعيش تكفينا وتقدم حالة مجسدة ومعيشة؛عنوانها أن جلالة الملك دعم الاتجاهات الإصلاحية منذ سنوات،ودأب على تقديم الرؤى وتوجيه الحكومات والمؤسسات نحو أفكار محددة وسياسات بعينها، لكن النتائج كانت تأتي متواضعة أو تتوارى نهائيا خلف ثقافة الإحباط وروح التشكيك وهواجس الخوف التي تلف حياتنا كلها، وقد عبر جلالته مرارا عن شعوره بالمرارة من هذه الحالة البائسة التي تعيق كل خطوة نحو التغيير الايجابي ،وتثقلها بالتشكيك. وفي عام الربيع العربي مضى جلالة الملك قدما في استنهاض همم الأردنيين لالتقاط اللحظة والدفع بالأمور بوعي وهمة نحو آفاق جديدة على دروب الإصلاح الوطني الشامل,وأبدى جلالته قدرة خارقة على فهم متطلبات اللحظة والتكيف معها ،تعظيما للمكاسب الوطنية وتهوينا للخسائر الجانبية. وقدمت الدولة الأردنية بمؤسساتها المختلفة وعلى رأسها مؤسسة العرش قدرة على التعاطي مع اشتراطات اللحظة على صعد الحوار والتواصل مع الشرائح المجتمعية والسياسية المتنوعة،ورفع سقوف الحريات العامة وحرية التعبير بل وإزالة كل السقوف،ومثلت الصيغ الأمنية المرنة في التعامل مع الفعاليات الاحتجاجية أنموذجا يستحق الثناء في القدرة على التعاطي مع اللحظة وإدراك متطلباتها.وتمكنت الدولة من السير وطنيا منسجمة مع اتجاهات الريح ،والعمل على استثمارها لتحقيق خطوات سريعة وثابتة على طريق الإصلاح الدستوري والتشريعي والسياسي،وما زالت العملية مستمرة.
وفي خضم العملية السياسية الوطنية الجارية في هذه اللحظة المفصلية عرفنا بالتجربة خطورة التعاطي ببلاده مع اللحظة المشتعلة، وخطورة أن لا يتقن البعض إطفاء الحرائق السياسية ، بل قد يبدي مهارة فائقة في إشعالها، ولعل قصة المادة 23 وإقحامها في قانون مكافحة الفساد بالذات وفي هذه اللحظة المشتعلة تحديدا لا يمكننا قراءتها إلا في سياقات الإصرار على إشعال الحرائق !فهل يمكن لمسؤول في السلطتين التنفيذية والتشريعية تبرير إشعال هذا الحريق؟وانتظار الفرج عبر التوجيه الملكي وفي كل مرة، وهل يمكننا فهم كثير من القرارات والسياسات التي خبرناها عبر الأشهر المشتعلة الماضية في سياقات بعيدة عن عدم قدرة البعض على تقدير الموقف ،أو تحديد مخاطر قرار أو موقف ما والمصائب الناجمة عنه.
وعلى المقلب الآخر على رأي الإخوة اللبنانيين ،نجد في صفوف المعارضة والحراك السياسي الشعبي سلوكا ولغة لا يعبران أبدا عن فهم استحقاقات اللحظة السياسية التي نعيش،إذ نجد جمودا وتكلسا وتمسكا بقوالب سياسية قديمة عفا عليها الزمن وتجاوزها بمراحل .ونجد ما يؤكد عدم القدرة على فهم اللحظة السياسية يتمثل في التحرك الفوضوي الاندفاعي المنفلت من كل شعور بضرورة ضبط السلوك والخطاب في اللحظة الحرجة،فمن غير المقبول الانفلات من ضوابط المصلحة الوطنية تذرعا بالسعي لتحقيق المصلحة الوطنية! ولا شك أن عدم الانضباط بمتطلبات اللحظة وشروطها يرتقي لدرجة الانتهازية السياسية إن لم يفسر بالغباء السياسي. وعندما نعمد إلى تقويم مدى قدرة القوى الشعبية على فهم اللحظة الراهنة يبرز في مقدمة المشهد الأحزاب السياسية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين وأذرعها، ومن هنا يكتسب موقف الجماعة ومقدرتها على فهم اللحظة أهمية خاصة في توجيه رياح اللحظة بما يكفل توجيه سفينة الوطن نحو شاطئ الأمان؛فسلاح المقاطعة الانتخابية الذي جرب في لحظات سياسية مختلفة كل الاختلاف عن هذه اللحظة وفشل في تحقيق نتائج إيجابية للجماعة وللوطن ،هل يعقل أن يفعل الآن ويعاد إنتاجه مجددا ! وهل يمكن تبريره ومن ثم فهمه في عملية التحليل السياسي في هذه اللحظة بأدوات التحليل ذاتها التي استخدمت في مرات سابقة؟وهل يمكنتفسير المقاطعة اليوم في سياق الاحتجاج السياسي والتعبير عن الموقف ،أم أنه يمهد لتوجهات ثورية معلنة أو مبطنة،ومحاولة فضعاف الدولة والاستقواء عليها!بطبيعة الحال لا يستطيع أي محلل سياسي أو خبير في الشؤون الأردنية أن يفهم المقاطعة اليوم بنفس الروح التي تفهم فيها قرار المقاطعة في سنوات وحالات سابقة.ومن المؤكد أنه ليس في مصلحة أحد سوى من لا يريد لبلدنا خيرا أن يدفع باتجاه مقاطعة الجماعة للانتخابات البلدية والنيابية القادمة، ومن يدفع باتجاه اتخاذ هذا القرار يجب عليه أن يعلم مخاطره الجسيمة ، وفي هذه اللحظة تحديدا.
وفي المحصلة فإن من يراقب المشهد السياسي الأردني يدهش لدرجة عجز قطاعات واسعة من الأفراد والمسؤولين والجماعات والمؤسسات عن فهم معاني اللحظة السياسية الراهنة وأصول التعامل معها ،ولعل كثيرا من المناكفات ومحاولات الاستعراض الكلامي التشهيري، وعمليات التلاعب بالمشاعر ودغدغة العواطف والتطلع للاستنساخ الثوري المفتعل من المشهد العربي تؤكد كلها عجز البعض عن فهم اللحظة الأردنية وخصوصيتها . وبالتأكيد فإن التعميم يكون مضللا ،هنا ؛ فإدراك متطلبات اللحظة السياسية الوطنية ، وتسليط الضوء على النهايات، وتحريم اختراق الخطوط الحمراء، وأولها هوية الدولة وأمنها واستقرارها، كان حاضرا في ذهنية شخصيات وأفراد وقوى سياسية ومجتمعية كثيرة وهي تتعاطى مع المشهد السياسي الراهن.
Bassam_btoush@yahoo.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات