اجْعَلْ الْمَرْكَبَ يَسِيرُ




الْكَاتِبَةُ : هِبَةُ أَحْمَدَ الْحَجَّاجِ


تُعَدُّ نَوْبَاتُ الْغَضَبِ مِنْ الْحَالَاتِ الشَّائِعَةِ فِي مَرْحَلَةِ الطُّفُولَةِ . وَعَادَةً مَا تَظْهَرُ فِي نِهَايَةِ السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ الْعُمْرِ ، وَتَكُونُ أَكْثَرَ شُيُوعًا عِنْدَ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ تَتَرَاوَحُ أَعْمَارُهُمْ بَيْنَ سَنَتَيْنِ ( عُمْرُ السَّنَتَيْنِ الْمُزْعِجُ ) إِلَى أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ ، وَعَادَةً مَا تُصْبِحُ نَادِرَةً بَعْدَ عُمْرِ خَمْسِ سَنَوَاتٍ . إِذَا تَكَرَّرَتْ نَوْبَاتُ الْغَضَبِ بَعْدَ سِنِّ الْخَامِسَةِ ، فَقَدْ تَسْتَمِرُّ طَوَالَ مَرْحَلَةِ الطُّفُولَةِ .


وَ سِيمْفُونِيَّاتُ بِيتْهُوفِنْ تَحْدِيدًا السِّيمْفُونِيَّةُ التَّاسِعَةُ وَالَّتِي تُعْرَفُ بِاسْمِ السِّيمْفُونِيَّةِ الْكُورَالِيَّةِ هِيَ آخِرُ سِيمْفُونِيَّةٍ كَامِلَةٍ لِلْمُؤَلِّفِ الْمُوسِيقَارِ لُودْفِيجْ فَانْ بِيتْهُوفِنْ ، وَتُعْتَبَرُ وَاحِدَةً مِنْ أَشْهَرِ الْأَعْمَالِ عَلَى مُسْتَوَى الْعَالَمِ ، حَيْثُ يَعُدُّهَا الْبَعْضُ أَعْظَمَ قِطْعَةٍ مُوسِيقِيَّةٍ كُتِبَتْ عَلَى الْإِطْلَاقِ .


قَدْ يَتَبَادَرُ لِذِهْنِكَ كَقَارِئٍ مَا هُوَ الرَّابِطُ الْعَجِيبُ بَيْنَ الصُّرَاخِ الْأَطْفَالِ وَ سِيمْفُونِيَّاتِ بِيتْهُوفِنْ تَحْدِيدًا السِّيمْفُونِيَّةِ التَّاسِعَةِ ، أَخِي ؛ نَعَمْ لَا تَسْتَغْرِبْ إِطْلَاقًا ، سَتَسْأَلُنِي كَيْفَ ذَلِكَ ؟ ! سَأُجِيبُكَ بِكُلِّ تَأْكِيدٍ وَأَقُولُ : - عِنْدَمَا تَكُونُ السَّاعَةُ قَدْ قَارَبَتْ مِنْ السَّاعَةِ السَّابِعَةِ صَبَاحًا وَأَنْتَ فِي نَوْمٍ عَمِيقٍ ، تَشْعُرُ وَكَأَنَّ الْعَالَمَ هَاجَرَ وَتَرَكَكَ وَحِيدًا مِنْ شِدَّةِ الْهُدُوءِ وَالْأَمَانِ ، وَإِذْ يَأْتِي صَوْتٌ كَسِيمْفُونِيَّاتِ بِيتْهُوفِنْ وَكَمَا قُلْتُ لَكَ تَحْدِيدًا السِّيمْفُونِيَّةِ التَّاسِعَةِ ، وَتَشْعُرُ وَكَأَنَّكَ كُنْتَ خَالِدًا فِي النَّوْمِ عَلَى عَتَبَةِ الْمَسْرَحِ الْخَشَبِيِّ وَفَجْأَةً مِنْ دُونِ إِنْذَارٍ ابْتِدَاءَ الْعَرْضِ ، تَسْتَيْقِظُ وَكَأَنَّا هُنَاكَ زِلْزَالٌ مَرَّ مِنْ تَحْتِكَ أَوْ حَتَّى صَاعِقَةُ بَرْقٍ ضَرَبَتْكَ ، هَذَا مَا حَدَثَ مَعِي تَحْدِيدًا عِنْدَمَا سَمِعْتُ صَوْتَ صُرَاخِ أَخِي الصَّغِيرِ وَبُكَائِهِ بِحُرْقَةٍ ، شَعَرْتُ أَنَّ هَذَا مَا يُقَالُ عَنْهُ صَدَمَاتُ الطُّفُولَةِ ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَوَاقِفِ الَّتِي يَتَعَرَّضُونَ لَهَا فِي الْحَيَاةِ ، تُسَمَّى كَذَلِكَ لَيْسَ شَرْطًا لِشِدَّتِهَا وَلَكِنْ لِحَسَاسِيَةِ وَحَرَجِ الْعُمْرِ الَّذِي حَدَثَتْ فِيهِ . كَانَ يَجْرِي أَخِي الْمُقْبِلُ عَلَى الْحَيَاةِ بِاتِّجَاهِ أَبِي بِذِرَاعَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَخْتَبِئَ مِنْ الْعَالَمِ مِنْ خِلَالِهِ ، وَسَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ لَهُ : - هَدَأْ مِنْ رَوْعِكَ مَا الَّذِي حَصَلَ ؟ ! أَخْبِرْنِي بِرَوِيَّةٍ .


نَظَرْتُ إِلَيْهِ وَقُلْتُ : - هَذَا لَيْسَ بُكَاءَ طِفْلٍ بَلْ صُرَاخٌ ، النَّاسُ جَمِيعُهُمْ سَمِعُوا صُرَاخَكَ ، نَظَرَ إِلَيَّ أَبِي نَظْرَةً حَادَّةً وَعَنِيفَةً بَعْضَ الشَّيْءِ قَائِلًا : - الصُّرَاخُ عَلَى الْأَطْفَالِ لِن ازعاجك مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ يُرْعِبُ وَلَا يُرَبِّي ، يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ الصُّرَاخَ وَسِيلَةُ الْغَاضِبِ ، كُنْ حَازِمًا بِهُدُوءٍ ، لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ ، هَيْبَتُكَ بِكَلِمَاتِكَ لَا بِصُرَاخِكَ .


هَمَسْتُ فِي نَفْسِي مُتَسَائِلًا : - هَلْ ذَلِكَ يَعْنِي أَنَّنِي أَنَا الَّذِي كُنْتُ أَصْرُخُ وَأَخِي مَاذَا كَانَ يَفْعَلُ إِذَنْ ! يُغْنِي مَثَلًا ؟


وَإِذْ بِأَخِي يَبْكِي مَرَّةً أُخْرَى وَيَقُولُ : - صَدِيقِي يُرِيدُ أَنْ يَلْعَبَ كُرَةَ الْقَدَمِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَلْعَبَ كُرَةَ السَّلَّةِ ، تَجَادَلْنَا وَقَالَ : - لَا أُرِيدُ أَنْ أَلْعَبَ لَا أُحِبُّهَا وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَلْعَبَ مَعَكَ .


رَدَّ عَلَى الْفَوْرِ أَبِي وَقَالَ : - لِتَحْسِينِ عَلَاقَاتِكَ مَعَ النَّاسِ يَجِبُ أَنْ تُتْقِنَ فَنَّ التَّقَبُّلِ .


فَمَا تُحِبُّهُ أَنْتَ لَيْسَ بِالضَّرُورَةِ أَنْ يُحِبَّهُ الْآخَرُونَ وَالْعَكْسُ صَحِيحٌ .


وَأَنْ تُجِيدَ مَهَارَةَ التَّغَافُلِ .


فَلَيْسَتْ كُلُّ الْأُمُورِ تَسْتَحِقُّ الْجِدَالَ .


ثُمَّ أَخَذَ أَبِي يَمْسَحُ دُمُوعَ طِفْلِهِ الصَّغِيرِ وَيَقُولُ : التَّغَافُلُ أَوْ التَّجَاهُلُ مِنْ أَجْلِ رَاحَةِ الْبَالِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى الذَّكَاءِ الْعَالِي لَدَى الشَّخْصِ ، وَكَأَنَّ الشَّخْصَ يَقُولُ كُلَا لن أَسْمَحُ لِأَيِّ شَيْءٍ بِأَنْ يُعَكِّرَ مِزَاجِي .


شَعَرْتُ لِوَهْلَةٍ بَيْنَمَا أَبِي كَانَ جَالِسًا وَيَتَحَدَّثُ مَعَ أَخِي ، انْنِي بِحَاجَةٍ هَذِهِ الْجَلْسَةِ وَقُلْتُ لَهُ : - أَبِي أُرِيدُ أَنْ أَتَحَدَّثَ مَعَكَ وَلَكِنْ بِدُونِ صُرَاخٍ وَبُكَاءٍ .


ابْتَسَمَ أَبِي قَائِلًا : - حَسَنًا ، بِمَا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ هَهْهَهَهَهَهَهْ


قُلْتُ لَهُ : - أَتَعَلَّمُ يَا أَبِي ، أَحْسُدُ أَخِي أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصْرُخَ وَأَنَا لَا ، لِأَنَّ الْبَعْضَ يَدَّعِي أَنَّ الصُّرَاخَ حَلٌّ لِلتَّحَرُّرِ مِنْ الطَّاقَةِ السَّلْبِيَّةِ ، وَلِلتَّخَلُّصِ مِنْ بَعْضِ الضُّغُوطَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ . أَوَدُّ أَنْ أُقِرَّ أَنَّهُ بُحَّ صَوْتِي ، وَفَقَدْتُ أَحْبَالِي الصَّوْتِيَّةَ وَتَشَنَّجَ رَأْسِي ، وَلَا زَالَ بَعْضُ الضِّيقِ عَالِقٌ فِي حَنْجَرَتِي ، وَالضُّغُوطَاتُ النَّفْسِيَّةُ مَا فَتِئَتْ تُحَاصِرُنِي . و الصُّرَاخَ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْأَلَمِ .


نَظَرَ إِلَيَّ أَبِي مُتَسَائِلًا مُسْتَغْرِبًا : - لِمَاذَا هَذَا كُلُّهُ ؟ !


قُلْتُ لَهُ : - مَثَلًا ، مَرَّ صَدِيقٌ لِي مِنْ أَمَامِي وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيَّ !


أَجَابَنِي " أَيْنَ الْمُشْكِلَةُ ؟ "


سَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْكَ ، هُنَاكَ مَلِكٌ فَوْقَ رَأْسِهِ يَرُدُّ عَلَيْكَ بَدَلًا مِنْهُ ، وَشَتَّانَ بَيْنَ الرَّدَّيْنِ ! ؟


قُلْتُ لَهُ : - مَاذَا عَنْ أَنَّهُمْ قَابَلُوا إِحْسَانِي لَهُمْ بِالْإِسَاءَةِ وَمَعْرُوفِي بِالْجُحُودِ ، وَخَيْرِي بِالْجَفَاءِ ؟


أَجَابَنِي : - " كُلُّ إِنَاءٍ يَنْضَحُ بِمَا فِيهِ " .


قُلْتُ لَهُ : وَلَكِنَّهُمْ دَائِمًا يُعَارِضُونِي ، وَرَأْيُهُمْ عَكْسُ رَأْيٍ فِي غَالِبِ الْأَحْيَانِ .


أَجَابَنِي : - " اَلْخِلَافُ فِي الرَّأْيِ لَا يُفْسِدُ لِلْوَدِّ قَضِيَّةً " .


حَسَنًا ، أَبِي يَتَكَلَّمُونَ عَنِّي وَ يَكْثُرُ حَوْلِي الْقِيلَ وَ الْقَالَ !


أَجَابَنِي : - " دَعْهُمْ فِي غَيِّهِمْ يَعْمَهُونَ " .


وَإِذَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ زَوَالَ نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ ؟


رَدُّ عَلِيٍّ : - " الْحَسَدُ ، بَدَأَ بِصَاحِبِهِ فَقَتَلَهُ " .


أَبِي لَكِنَّهُمْ يَسْتَصْغِرُونِي وَيَحْتَقِرُونِي وَيُقَلِّلُونَ مِنْ شَأْنِي !


قَالَ أَبِي : حَتَّى وَلَوْ ؛ ذُبَابَةٌ قَتَلَتْ النُّمْرُودَ وَنَمَلَةٌ أَوْقَفَتْ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ ، أَمَا وَقَدْ رَأَيْتُ الْبَعُوضَةَ تُدْمِي مُقْلَةَ الْأَسَدِ ؟ !


قُلْتُ لَهُ : وَلَكِنَّنِي أَحْيَانًا أَشْعُرُ أَنَّهُمْ يُثَبِّطُونَ عَزِيمَتِي وَيُطْفِئُونَ حَمَاسِي .


أَبِي : - إِذَا عَرَفْتَ نَفْسَكَ وَ قُدُرَاتِكَ جَيِّدًا فَلَا يُهِمُّكَ مَا يَقُولُهُ النَّاسُ عَنْكَ .


قُلْتُ : لَكِنَّهُمْ يَعِيبُونَ عَلَيَّ صَمْتِي وَيَلُومُونِي عَلَى قِلَّةِ كَلَامِي .


أَبِي : " الْأَوَانِي الْفَارِغَةُ أَكْثَرُ ضَجِيجًا مِنْ الْمُمْتَلِئَةِ " مَا يَضُرُّكَ ؟


اتعلم ، عِنْدَمَا سُئِلَ أَعْرَابِيٌّ مَنْ هُوَ الذَّكِيُّ ؟


قَالَ : هُوَ الْفَطِنُ الْمُتَغَافِلُ الَّذِي ؛


يَرَى الْأَخْطَاءَ ، وَلَا يَرَاهَا .


وَيَرَى حَاسِدُهُ ، وَلَا يَهْتَمُّ .


وَيَرَى عَدُوَّهُ ، وَلَا يَلْتَفِتُ .


وَيَرَى الْفِتْنَةُ ، فَلَا يَنْظُرْ .


وَمَبْتَعِدْ عَنْ الْقِيلِ وَالْقَالِ .


فَيَبِيتُ وَقَلْبُهُ نَقِيٌّ ، وَنَفْسُهُ رَاضِيَةٌ .


فَلَا تَعَبٌ ، وَلَا فِكْرَ ، وَلَاكَدَرٌ ، وَلَا هُمْ . .


ثُمَّ ارْتَدَى أَبِي نَظَّارَتَهُ مُبْتَسِمًا ابْتِسَامَهُ يَعْلُوهَا الدَّهَاءُ وَالْحِكْمَةُ مُتَسَائِلًا : - حَسَنًا سَأَسْأَلُكَ سُؤَالَ : كَمْ كَانَ عُمْرُكَ عِنْدَمَا عَرَفْتَ أَنَّ النَّظَّارَةَ الطِّبِّيَّةَ لَايَجِبُ أَنْ تَكُونَ 6/6 وَ إِلَّا أُصِبْتَ بِالصُّدَاعِ !


لِمَاذَا ؟


نَحْنُ نَلْبَسُ نَظَّارَةً حَتَّى نُشَاهِدَ مِثْلَ مَا يُشَاهِدُونَ الْأَصِحَّاءَ !


عَرَفْتُ بَعْدَهَا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَاتَنْظُرَ لِكُلِّ الْأَشْيَاءِ مِنْ حَوْلِكَ بِتَفَاصِيلِهَا الدَّقِيقَةِ حَتَّى لَاتُصَابَ بِالصُّدَاعِ !


مُنْطَقِيٌّ جِدًّا . .


لِهَذَا السَّبَبِ هُنَاكَ حِكْمَةٌ مِنْ التَّغَافُلِ .


قُلْتُ لَهُ : - صِدْقًا ! الْآنَ عَرَفْتُ هَذِهِ الْمَعْلُومَةَ .


أَجَابَنِي ضَاحِكًا : ذَهَبَ نِصْفُ عُمْرِكَ هَهْهَهْ ، اجْعَلْ الْمَرْكَبَ يَسِيرُ مِنْ حَوْلِكَ لَا عَلَيْكَ .


لقراءة المزيد من مقالاتي تفضلوا بزيارة مدونتي:


https://www.liakunjilisk.com/



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات